اتفاق أضنة المعدّل و “التكويعة” التركية. الأستاذ زيد م. هاشم

اتفاق أضنة المعدل والتحولات التركية. منطقة أمنية غير آمنة. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. 12.08.2022. مرت الأزمة السورية بتطورات متقلّبة فيما يخص التدخل التركي الداعم للمعارضة المسلحة والسياسية. هذا التدخل تحوّل إلى احتلال بدخول آلاف الجنود الأتراك، وقيام المخابرات التركية بتأمين دخول عشرات الآلاف من الإرهابيين من شتى بقاع الأرض. والهدف الرئيسي كان الإطاحة بالقيادة السورية والسيطرة على كامل التراب السوري وإحياء الحلم العثماني بإعادة الخلافة بزعامة رجب طيب أردوغان.

تحولاتٌ متلاحقة من دعم إلى احتلال مباشر

 طالَ دعم أنقرة للمعارضة السورية في البداية، المعارضة العلمانية والإسلامية، ثم تحوّل تدريجياً إلى دعم المعارضة الإسلامية فقط، بعد إنكشاف الحقيقة للمعارضين “العلمانيين” وانفضاضهم مذلولين عن تركيا.

تحالفت تركيا في عدائها لسوريا مع “الأشقاء” العرب، وأمّنت عبور الإرهابيين والسلاح والعتاد والأموال المُقدمة من الدول العربية بعد حسم حصتها.

حُسمتْ معركة القصير وحُرّرت حمص، وانهار ما سُمّي بالجيش الحرّ، فتحول الدعم التركي للإرهابيين التكفيريين وبنت المخابرات التركية خطتها على دعم جهتين أساسيتين: الأولى جبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة الإرهابي والثانية جيش الأخوان المسلمين. أطلقت أسماء جديدة على التنظيمات تلك دون أن تنجح في تغيير سماتها الأساسية.

عندما أدركت أنقرة أنّ إرهابيين وبعشرات الآلاف لا يمكنهم تحقيق أهدافها، تدخلت عسكرياً بشكل مباشر، فكانت بداية التحولات المهمة بالنسبة لها.

عشرات الآلاف من الإرهابيين لم يحققوا أهداف تركيا

بعد تشكيلها جيش الإخوان المسلمين، جاءت عملياتها العسكرية المباشرة. الإرهابيّون في المقدمة لتلقي الرصاصة الأولى، ثم الجيش التركي. شملت عملياتها جرابلس والراعي والباب ثم عفرين وأخيراً رأس العين وتل أبيض وبعض مناطق شمال الرقة.

من أهداف العمليات الثلاثة قطع الممر الكردي وفرض جيش الإخوان المسلمين كواقع في شمال سوريا، ليتم لاحقاً مشاركتهم في أي حل سياسي باعتبارهم معارضة “معتدلة” قاتلت داعش والنصرة وحزب العمال.

تشكيل أربع كنتونات تابعة لتركيا

أدت العمليات والاحتلال التركي لتشكيل أربع كنتونات؛ في إدلب وريف حلب الشمالي الغربي والشمالي والشرقي، بحيث تجاوز الاحتلال التركي في هذه المناطق خط الـ30 كم التي يسعى إليها أردوغان.

يسمحُ اتفاق أضنة الموقع بتاريخ 20.10.1998، بتوغل الجيش التركي حتى 5 كم داخل الأراضي السورية لملاحقة المتمردين الأكراد.

التحرك العسكري الروسي السوري الأخير جاء لمحاصرة هذه الكنتونات، ومنع انطلاق أية عملية عسكرية يُهدد بها الجيش التركي. فأطماع تركيا لا تقف عند القضاء على قسد فقط، بل تشكيل منطقة تربط عفرين بجرابلس والباب، تصبحُ طوقاً حول حلب التي يطمعُ أردوغان لاحتلالها من جديد.

اتفاقية أضنة المعدلة

تم تطبيق اتفاق أضنة المعدل في رأس العين حيث حضر الجيش السوري في تل تمر على بعد 30 كم من الحدود، بعد إخراج قسد منها. وكذلك تم الاتفاق على تفعيل دوريات روسية تركية في درباسية وعامودا بريف الحسكة، حيث تقدم الجيش السوري للحدود في مدينة عين عرب، مع تنفيذ دوريات روسية تركية مشتركة الإتفاق الذي طرحته أنقرة. ما أرادته أنقرة هو  خروج قسد من كافة المدن الحدودية لعمق 30 كم باستثناء مدينة القامشلي، لوجود الجيش السوري.

دويلة كردية أم احتلال عثماني؟

 هذا العنوان يُلخّصُ الحالة المعقدة التي سعى أردوغان لوضع القيادة السورية أمامها والاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ، فهل اختارت دمشق أم استطاعت المرور بين نقاط المطر؟ هناك حقائق نعرضها باختصار:

  • إخراج قسد من المدن الحدودية يعني “موت” المشروع الانفصالي ونهاية حلم إنشاء دويلة كردية.
  • بناءً على اتفاقيات سوتشي وأستانا؛ التدخل التركي المباشر في سوريا ينتهي باستباب الأمن والحل السياسي، والراعي هو إيران وروسيا.
  • مصر والسعودية وقطر، كانت أشدّ الدول “الشقيقة” معارضةً لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، رغم مساعٍ بذلتها دول أخرى كالجزائر والعراق وتونس، لإصلاح ذات البين. فماذا تفعل دمشق إذا كان “الأشقاء” لا يريدونها إلا بشروط شبه مستحيلة تصل إلى قطع علاقاتها بطهران.
  • تفاخرت السعودية، عقب زيارة جو بايدن لها واجتماعه بزعامات عربية، بإهانة رئيس أقوى دولة، وهي تظنُّ أنّ تلك الإهانة ستمر مرور الكرام، بينما الانتقام الأميركي قادم بيد إيرانية، سنبحث فيه في مركز فيريل للدراسات.
  • لن تقف روسيا في وجه تركيا عسكرياً، ليس لأنها عضو في الناتو فقط، بل لأنّ مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية كبيرة مع أنقرة، وتنافسُ مصالحها في سوريا. وقد استطاع بوتين بخبثه المخابراتي جرّ أردوغان إليه وربطه بحبل يشدّهُ وقت يريد، لكن دون أن يقتلهُ ولن يقتلهُ، لأنّ بقاء أردوغان في كرسي الرئاسة أفضل بكثير من رئيس تركي جديد يحتاج لحبل جديد. من هنا ستدعم روسيا نظام أردوغان للفوز في انتخابات صيف 2023 دون شك. فيريل للدراسات

مبدئياً نقول؛ اختارت دمشق إلى أي جانب تكون، بناء على الظروف والتحولات الكبيرة التي يشهدها العالم.

أردوغان اختار على أيّ جانب ينام

صرّحَ أردوغان عدة مرات أنّ الروس والأمريكان لم يطبقوا التفاهمات بخصوص شمال شرق سوريا، وهذا صحيح. التفاهمات نصّت أن تخرجَ ميليشيات قسد من عين عرب وعين عيسى وعامودا ودرباسية والقحطانية والجوادية ومعبدة ورميلان والمالكية، ولم تخرج بل استقدمت تعزيزات عسكرية من واشنطن التي عارضت أية عملية عسكرية تركية.

بالمقابل وكما ذكرنا، عزّزَ الجيش الروسي تواجده في عدة مناطق بما فيها مطار القامشلي الذي تحول لقاعدة تمركز عسكري ودعم لوجستي، يصل إلى الحسكة من خلال هذا المطار، إضافة لتسليح المطار بدفاع جوي حديث قوّى موقف الجيش السوري، وعارضت موسكو أية عملية عسكرية تركية جديدة. فهل قام أردوغان بتنفيذ وعيده منذ شباط 2022؟

هنا بدأت تتغيّرُ لغة أردوغان تتغير ، وأدركَ أنّ مصالح تركيا أقرب لموسكو منها لواشنطن، وقد رأى ما يحدث في أوكرانيا وأوروبا من أزمات اقتصادية وسياسية لن تنتهي. كما أنّ الروس استطاعوا اختراق نفوذ الاحتلال الأميركي في قلب الجزيرة السورية والمناطق الشرقية وضمن قسد نفسها، بوصولهم إلى مطارات الطبقة وديرالزور والقامشلي.

فشلت الولايات المتحدة في رأب الصدع بين الزعامات الكردية في سوريا وشمال العراق، جماعات مسعود البرزاني المجلس الوطني وحزب العمال وقسد، كما أنّ نسبة كبيرة من عشائر الجزيرة السورية ودير الزور والرقة، تؤيد القيادة السورية وتميل لروسيا رغم وجودها تحت الاحتلال الأميركي.

إذاً روسيا أقوى من الولايات المتحدة في سوريا وعلى أردوغان أن يختار، فاختار.

ضوء أخضر روسي سوري لتركيا

من المعروف أنّ الحزب الديموقراطي مؤيد قوي لتفتيت الدول ومساعدة الانفصاليين لتأسيس دويلات أينما كانوا. الأمر ينطبق على الانفصاليين شمال سوريا الذين يدعمهم جو بايدن “الضعيف”. لاشك أن أردوغان يدرك ذلك، لكنه لم يتجرأ على مواجهة واشنطن بعملية عسكرية. بعد اجتماع بوتين أردوغان الأخير، نرى في مركز فيريل للدراسات أن ضوءاً أخضر يلمع لكن لعملية عسكرية تركية محدودة، تتركز أكثر على اغتيال زعامات انفصالية أكثر من توغل واسع.

هل ستعود العلاقات التركية السورية؟

في الأيام الأخيرة صدرت تصريحاتٌ مُلفتة عن وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو ثم تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حول وجود لقاءات واتصالات مع دمشق: (ستُقدّمُ تركيا كافة أنواع الدعم السياسي للحكومة السورية لمواجهة قسد، لإبعادها عن الحدود التركية).

في 20 تموز 2022 أردوغان: (على القوات الأمريكية مغادرة شرقي الفرات ونريد روسيا وإيران معنا في مكافحة الإرهاب). ثم: (اقترح عليّ الرئيس بوتين التفاهم مع دمشق في القضايا ذات الإهتمام المشترك).

ليأتي تصريح أوغلو الخميس 11 آب 2022: (علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم) ثم: (أجريت محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري في اجتماع دول عدم الانحياز ببلغراد). هذا التصريح أشعل النار في رؤوس المعارضة السورية خاصة، فثارت المناطق التي تحتلها تركيا، وأول عمل قامت به جموع المتظاهرين؛ إحراق العلم التركي. هذه الصورة وصلت الأتراك، وسنتحدث عنها بعد قليل.

لماذا أصبح أردوغان فجأةً مستعجلاً للمصالحة مع سوريا؟

ذكرنا في مقالة سابقة عقب قمة طهران التالي: (تحسّن موقف أردوغان، دون أن يتجاوز مرحلة الخطر، بفضل روسيا، التي دفعته للواجهة كوسيط “نزيه” وعضو في الناتو، خاصة في اتفاق تصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية وضمان أمن السفن التجارية في البحر الأسود. وشعر أنه قوي ومركز اهتمام عالمي، والوضع في سوريا يسير لمصلحته، فهو ليس بحاجة للمصالحة مع دمشق، وهذا ما صدر عن أنقرة لكن بطريقة ملتوية قبل اجتماع طهران الثلاثي، وقاله زعيم تنظيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني). كما أنّ نتائج زيارته للسعودية والإمارات حسب ظنّه كانت ممتازة، ومسار المصالحة مع مصر يجري بطريقة جيدة، وموسكو لن تقفَ في وجهه ضد غزو جديد لسوريا. كل هذه التقديرات التركية كانت فاشلة.

السعودية توجهت إلى اليونان عدوة تركيا التقليدية، وهذا ردّ واضحٌ على أنّ الزيارات المتبادلة لم تحلّ المشاكل العالقة. مصر رفضت المصالحة مع تركيا إلا بشروط صعبة. الإمارات لم تعد متحمسة لعلاقات اقتصادية مع تركيا. بوتين وبعد اجتماعه الأخير بأردوغان، لم يُطعمهُ “قبوعَ” آيس كريم، بل همس في أذنه بكلام يبدو كان قاسياً. إيران قد تعيد الاتفاق النووي ويُصبحُ تصدير البترول والغاز والمنتجات الإيرانية طبيعياً لا يحتاج للمرور بالموانئ التركية بطريقة التفافية، أي أنّ باب “الرزق الإيراني” قد ينقطع في أية لحظة… الأهم من كل هذا؛ الانتخابات التركية على الأبواب والوضع الاقتصادي والمعيشي من سيء لأسوأ ومعه شعبية الحزب الحاكم وأردوغان، فلِمَ الانتظار ولمتى؟

 ما الذي يؤخر أردوغان إذاً؟

رفضُ أردوغان “الظاهري” لمحادثة الرئيس الأسد، وأنّهُ يُفضّل البقاء على التواصل الاستخباراتي فقط، هو للاستهلاك الشعبي لا أكثر. والعائق الوحيد، على فرض أنّ هكذا محادثة لم تجرِ بعد، هو إيجاد صيغة وإخراج مناسب لهذا الالتفاف الكبير في السياسة التركية.

في الوقت الذي طالبت المعارضة التركية بالمصالحة مع دمشق، كان أردوغان وحزبه يصرّون على إسقاط الأسد. الآن ماذا وكيف سيبررُ تراجعهُ؟ المعارضة التركية ستسغلُ ذلك للقول أنّ الحكومة التركية رضخت للضغط الروسي والإيراني ويُثيرُ الشارع ضدها.

عائقٌ آخر هو موقف المعارضة السورية في تركيا وشمال سوريا، من “تكويعة” أردوغان الكبيرة. إذا كان مجرد تصريح لأوغلو أثار موجة مظاهرات وحرق أعلام ومنع أرتال عسكرية تركية من العبور، والهجوم على مركز شرطة إعزاز، فماذا سيحدث إن عادت العلاقات مع دمشق؟ ماذا سيحدث في الشارع التركي الثائر على حرق علم بلاده؟

أردوغان في موقف يصعب عليه البوح بقراره، لكن الموقف الأصعب هو من نصيب المعارضة السورية، إلى أين المفر؟

رأي وتوقعات مركز فيريل للدراسات

تريد تركيا دون شك اليوم قبل الغد، إعادة العلاقات مع سوريا. لكن لا نرى في مركز فيريل عودة سريعة. ستبدأ الأمور بتعاون مخابراتي أوسع، وتشكيل لجان سورية تركية خاصة بعودة اللاجئين السوريين بمشاركة إيرانية روسية. تعاون ما لحلّ ميليشيات قسد وتوابعها ودمجها ضمن صفوف الجيش السوري.

ملف شرقي الفرات مقابل ملف إدلب، وهذا يحتاج لمقالة أخرى.

اغتيالات بطرق شتى، لزعماء من هذه الميليشيات وغيرها من المجموعات المسلحة وحتى الأحزاب السياسية بما في ذلك التابعة لتركيا، ولكلّ مَنْ سيُحرضّ أو يُعارض عودة العلاقات، وستتولى المخابرات التركية هذه المهمة.

من توقعات مركز فيريل والتي نستندُ فيها لمعلومات حصلنا عليها من مصادر تركية وسورية، تحرّك الشارع التركي ضدّ اللاجئين السوريين بشكل دموي. في لقاء لنا مع عدة أتراك هنا في برلين، بعضهم معارض لأردوغان، كانوا غاضبين جداً من رؤية العلم التركي يحترق بيد لاجئين حماهم الجيش التركي، حسب رأيهم طبعاً.

الشارع التركي يغلي ضد اللاجئين السوريين والمعارضة على حدّ سواء. بيراك وميرت، تركيان من الحزب الجمهوري قالا لمركز فيريل: (منظر حرق العلم التركي أثار الدماء في عروقي، خاصة وأنه جاء من عناصر تدّعي أنها معارضة سورية وتتلقى منّا الدعم منذ عشر سنين). تابع ميرت: (من أجل هؤلاء الـ… مات جنود أتراك وترملت نساء ويُتّم أطفال. الآن يحرقون علمنا! سوف يرون قريباً…).

ختاماً

لسنا هنا بصدد التفاؤل أو التشاؤم، فنحنُ نُحلّلُ ونقرأ المعطيات بعيداً عن العواطف. كما كررنا مراتٍ؛ علاقات الدول مصالح ومصالح فقط، على دمشق أن تحسب سلبيات وإيجابيات الردّ على “التكويعة” التركية، وتأخذ بالحسبان مصالحها أولاً وثانياً.

الحرب في أوكرانيا وتحدّي روسيا للناتو، ثم المواجهة الصينية الأميركية، ستُلقي بظلالها على الشرق الأوسط وقد تكون ظلالاً سوداء، وسوريا في قلب المنطقة ونقطة مواجهة بين الطرفين، والسير بين نقاط المطر لن يكون سهلاً أبداً. سننهي المقالة هنا رغم ورود أخبار جديدة. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. 12.08.2022. الدكتور جميل م. شاهين. الأستاذ زيد م. هاشم.