الجيش الأوكراني يُحاصرُ موسكو! الدكتور جميل م. شاهين

مع دخول الحرب في أوكرانيا شهرها السابع، تقاريرُ غربية عن انتصاراتٍ ساحقة تُشعرُ المرءُ وهو يسمعها أنّ الجيش الأوكراني بات على مشارف موسكو، بل أخذ يُحاصرها. بالمقابل؛ هدوءٌ روسي “قاتل” بزعامة فلاديمير بوتين الذي استقبل تلك تقارير انتصارات كييف بأعصاب باردة، واكتفى بلسان الكرملين بالتأكيد على عدم الحاجة حالياً على الأقل، إلى إعلان التعبئة العامة واستدعاء الاحتياط. ما حقيقة ما يجري وما سرّ الهدوء الروسي؟! الجيش الأوكراني يُحاصرُ موسكو. الدكتور جميل م. شاهين. 17.09.2022

انتصارات أوكرانية وانسحاب روسي

في الحرب؛ الجميع خاسرون، مقولة صحيحة مهما كان الفارق بين الخصمين المتحاربين. اختراق أوكراني حصل دون رتوش، وخسائر أكبر من التوقعات مُني بها الجيش الروسي الذي سحبَ الآلاف من جنوده من عدة مدن شرقي وشمال شرقي البلاد خلال الأسبوع الماضي، إثر هجوم مضاد مدروس ومخطط له من قِبل المخابرات العسكرية البريطانية والأميركية، في إقليم خاركيف ثاني أكبر مدن أوكرانيا.  

زغاريد كييف ومعها الإعلام الغربي علتْ، واصفين ما حدث بانقلاب كامل في سير الحرب ورجحان الكفة لصالح الأوكرانيين، رافقتها تصريحات بعدم الجلوس للمفاوضات قبل تحرير كامل الأراضي بما في ذلك شبه جزيرة القرم…

يومان فقط بعد هذه الزغاريد، بدأت الهمم تبرد بينما الغرب المتحمّس أوقف احتفالاته وهو يتساءل بقلق: كيف سيردّ فلاديمير بوتن على ذلك؟

هل سترد روسيا على الهجوم الأوكراني الغربي؟

مع بدء الحرب في 24 شباط 2022، وفي الأول من آذار نقلت وسائل الإعلام عن رتل عسكري روسي طوله 64 كم يقترب من العاصمة كييف. العالم وقتها توقع حرب مدن شرسة يعقبها سقوط المدينة. فجأة؛ انسحب الجيش الروسي لأنه اكتشف أنّ الثمن سيكون غالياً. وجرى تغيير شامل للخطة والاستراتيجيا العسكرية، فتحرك الجيش الروسي جنوباً وشرقاً.

يبدو أنّ ما حدث في خاركيف مشابه إلى حد بعيد لمحاولة محاصرة كييف في آذار الماضي. وجد الروس أنّ الاحتفاظ بتلك المساحة الكبيرة مُكلف، وهي ليست ذات أهمية كبيرة وعليهم التركيز على الجنوب وإقليم دونباس أولاً.

النصر الأوكراني زوبعة في فنجان

كانت معركة حامية وانتصر فيها الجيش الأوكراني، لكنها معركة ضمن حرب لم تُحسم بعد. طالما أنّ الوضع بهذه الصورة من تقهقر الجيش الروسي وفراره واستسلامه كما وصفته وسائل الإعلام، لماذا لم يتابع الأوكران مسيرتهم حتى الحدود الروسية؟

 ما نراهُ في مركز فيريل للدراسات أنّ النصر الأوكراني مؤقت وليس أكثر من زوبعة في فنجان، فالمرحلة القادمة ستكون أكثر دموية. الروس ليسوا في عجلة من أمرهم، ينتظرون الشتاء والثلوج وعندها لن يستطيع الناتو نفسهُ الاحتفاظ بأية أراض أو مدن، وحتى ذلك الحين، لن يكون تثبيت أقدام الجيش الأوكراني في إقليم خاركيف سهلاً، فخسائره، البشرية والعسكرية، كانت كبيرة، وتعويضها بشرياً مستحيل إلا بتدخل مباشر من الناتو وهذا غير وارد حالياً، وحتى على صعيد السلاح لن يكون بهذه السرعة.

ازدادت تصريحات زعماء أوروبا والولايات المتحدة الرنّانة عن هذا “النصر المُبين”، كي يسوقوا لشعوبهم تبريراً مفادهُ؛ الأزمة الخانقة التي يعيشها الأوروبي والأميركي مؤقتة، وإرسال السلاح لكييف مُبرّرٌ وهام وهذه نتائجه الباهرة. على هذا المواطن “الصبر” قليلاً وسيرى النتائج. لكنّ الشارع ما عاد يهتم بأوكرانيا كلّها كما في نهاية شباط، همّهُ الأول تأمين الغاز ودفع فواتير الكهرباء.

بالمقابل؛ تعرّضت القيادة الروسية وفلاديمير بوتين شخصياً للانتقاد من الداخل. المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قال الثلاثاء: (إنّ انتقاد قيادة روسيا، ومطالبة البعض بالتعبئة دليل على التعددية، عِلماً أنّ الروس يواصلون دعم الرئيس فلاديمير بوتين. بشكل عام). هذا يعني أنّ شعبية بوتين تراجعت بسبب الهجوم الأوكراني لكنها بقيت ضمن الحدود غير الحرجة.

التشكيك في انتصارات الجيش الأوكراني ليس صادراً عن مركز فيريل فقط، بل ورد على لسان وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنطوني بلينكن نفسه: (من السابق لأوانه التكهّن بنتيجة الهجوم الأوكراني المضادّ. أعتقد أنّه لن يكون من المناسب التكهّن بالضبط إلى أين سيقودنا كلّ هذا. فالروس يحتفظون بقوات كبيرة جداً في أوكرانيا، بالإضافة إلى معدّات وذخيرة). هذا كلام أكبر حليف لأوكرانيا.

صحيفة Washington Post  الأميركية وصفت ما جرى بنقطة تحول كبيرة في سير المعارك، وأن الهجوم المضاد كشف عن “حسابات خاطئة كارثية” جديدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال فيها إن أوكرانيا ستنهار، وإنها ستستسلم وستكتسحها الدروع الروسية الضخمة.، لكنّ الصحيفة استدركت ذلك بالقول؛ (إنّ هجوماً مضاداً واحداً لا يحقق النصر).

أسلحة روسيا الحقيقية لم تظهر بعد

 

على هامش لقاءاته في مدينة سمرقند الأوزبكستانية ضمن  مؤتمر دول قمة شنغهاي، قال بوتين: (لسنا في عجلة من أمرنا بشأن العملية في أوكرانيا) تصريح استفزازي بقلبٍ بارد وكأنه يلعب الشطرنج في قاعة مُكيّفة.

قد يكون السلوك الروسي بعدم الاهتمام بتقارير الغرب عن انتصارات أوكرانيا الميدانية، مبالغٌ فيه ومقصود لكنّ الواقع على الأرض يؤكد إلى حد بعيد صحة عدم الاكتراث هذا.  فكلام الكرملين عن عدم الحاجة حالياً إلى إعلان تعبئة عامة لدعم الحملة العسكرية، مرده سببان كما نعتقد؛ تحاشي ردّة الفعل الشعبية الروسية، وعدم الالتزام بقوانين الحرب. فموسكو حتى الآن لم تُعلن الحرب على أوكرانيا وتعتبر ما يجري مجرد عمليات عسكرية خاصّة.

الجميع “يركضُ” قبل الشتاء باستثناء فلاديمير بوتين. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سبقَ وناشد مجموعة الدول السبع خلال قمتهم جنوب ألمانيا 28 حزيران 2022، أن يجدوا حلاً لإنهاء الحرب قبل الشتاء، مُطالباً بالمزيد من التسليح والدعم لإحراز تقدّم ميداني باهر  يعزز موقفه التفاوضي في محادثات سلام قادمة. من جانبٍ آخر؛ الضرر الذي سيلحقُ بأوروبا مع تدني درجات الحرارة دون الصفر، سيجعلها تكفرُ بعلاقاتها مع واشنطن وكييف معاً، وتوقف أيّ دعم لزيلينسكي وهذا ما تراهنُ عليه موسكو.

سلاح الغاز والبترول، واحد من الأسلحة الروسية التي لم تظهر نتائجها بشكل كبير بعد. ماذا عن الأسلحة الأخرى؟

الهجوم المضاد آخر ورقة في جعبة أوكرانيا

قد تستمرُ كييف في هجومها أو تتحوّلُ لساحة حرب أخرى، لكن شرطا حدوث ذلك هما: استمرار الدعم العسكري الغربي وبأسلحة أكثر فتكاً والثاني تأمين الإمداد البشري لتعريض النقص في الجنود. لهذا عندما وصفت صحيفة Wall Street Journal الهجوم الأوكراني المضاد بآخر فرصة بيد أوكرانيا كي تقنعَ أوروبا بالاستمرار بدعمها بالسلاح والمال بينما الشتاء على الأبواب، لم تكن هذه الصحيفة مخطئة.

 هذا التطبيل للنصر الأوكراني من الغرب وكييف نفسها سيضرّ بها بالتأكيد. معنويات الجيش الأوكراني ارتفعت دون شك، ولكن هل نسي هذا الجيش أنّهُ مازال يقف على قدميه، بفضل التدريب والتسليح من الناتو، حتى التخطيط والمعلومات العسكرية تصلهُ من لندن وواشنطن وبروكسل.

الولايات المتحدة تُحاربُ روسيا متخفية وراء أوكرانيا، لهذا هزيمة كييف تعني هزيمة واشنطن وهذا لن تسمح به حتى لو تخلت باقي دول الناتو عن هذه الحرب، أو اضطرت لدخولها لوحدها وبشكل علني.

بعيداً عن الإعلام الكاذب

إذا وضعنا جانباً ما يُقال من الطرفين حول المعارك، نجدُ التفاؤل الأميركي بأخبار كييف حول (خسائر  كبيرة وهزيمة الجيش الروسي) غير موجود أصلاً،  فالمخابرات الأميركية تعلم أنّ روسيا  لم تستخدم من جيشها أكثر من 8%، وهناك الكثير الثكير من الأسلحة الحديثة لم تجربها بعد، كما أنّ مخزونها من السلاح أفضل من نظيره لدى معظم دول الناتو. الأخطر؛ أنّ روسيا لم تُستنزف اقتصادياً والضرر الذي أحاق بالاقتصاديات الغربية نتيجة العقوبات، أكبر بكثير مما أصاب الاقتصاد الروسي.

حجم المساعدات العسكرية الأميركية الفعلي لأوكرانيا حتى تاريخ هذه المقالة في مركز فيريل للدراسات هو 15,3 مليار دولار، بينما طلب جو بايدن من الكونغرس الموافقة على مساعدات أخرى بقيمة 11,7 مليار دولار. هذه الميزانية الممنوحة للجيش الأوكراني تعادل ميزانية الجيش السوري لأكثر من 18 عاماً، تخيلتم المبلغ؟

السؤال: إلى متى تستطيع الولايات المتحدة تمويل الحرب في أوكرانيا؟ ألمانيا ومعها الدول الأوروبية تُدركُ أنّ تسليح الجيش الأوكراني لن يمر دون عقاب، والشتاء سيقول كلمته. لكن واشنطن لن تتأثر كأوروبا بحرب الطاقة الروسية، ماذا عن التضخم وتراجع شعبية بايدن مع اقتراب الانتخابات النصفية؟

الدعم الأميركي مستمر حتى تشرين الثاني القادم، إن فاز الديموقراطيّون سنرى حرباً أكثر سخونة. أما إن خسروا فسيعرقل الجمهوريون قرارات بايدن في دعم كييف.

ختاماً

في نهاية المطاف نحن أمام خيارين لا ثالث لهما؛ أن تستمر  المعارك وتشتعلُ أكثر فأكثر لنقترب من حرب أوسع قد تتحول إلى عالمية يتهرّبُ منها الجميع. أو تنتهي اللعبة بتقديم تنازلاتٍ من الطرفين لتجنيب العالم الأسوأ.

تسعى ألمانيا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى باتجاه التهدئة، فيتواصل زعماؤها مع الكرملين. فاتورة الحرب يدفعها اقتصاد الحكومات المعادية لروسيا دون استثناء، وإن كان بحصص متباينة الحجم، أكبرها من نصيب أوكرانيا ثم أوروبا، وكذلك تدفعُ روسيا والولايات المتحدة وكافة دول العالم نصيبها من هذه الفاتورة.

الحرب لم تبدأ حتى تنتهي، وما نقصده ليست الحرب العسكرية فقط. فالحروب كثيرة وساحاتها أكثر؛ من أقصى الشرق الآسيوي إلى وسط آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا ووسط أميركا وصولاً إلى القطب الشمالي… النار اشعلتها “حمّالة الحطب” وهي ترفض لقاء “عزرائيل” قبل أن ترى العالم يكتوي بها… في الخريف سنرى نتائج مبدئية لتلك الحرب في شوارع العواصم الأوروبية قبل موسكو، حيث ستكون الكلمة للطاقة والقمح واليورانيوم… وما أدراك ما سلاح القمح واليورانيوم. الدكتور جميل م. شاهين. 17.09.2022