من جورج فلويد إلى مهسا أميني. الدكتور جميل م. شاهين

من جورج فلويد إلى مهسا أميني. الدكتور جميل م. شاهين. 24.09.2022 بتاريخ 25 أيار 2020 أقدمت الشرطة الأميركية على قتل جورج فلويد George Perry Floyd، حيث جثى ضابط الشرطة في مدينة مينابوليس الأميركية Derek Michael Chauvin  بركبته على رقبة جورج لتسع دقائق كانت كافية لخنقه، جرى ذلك أثناء اعتقاله بتهمة محاولته دفع 20 دولار  (يُشكّ أنها مزورة) لمطعم كان مازال يجلسُ فيه.

لماذا جورج فلويد؟

بعيداً عن جمهورية أفلاطون الخيالية؛ أن ترتكبَ شرطة دولة ما جريمة قتل مُعتقل بريء، أمرٌ يحدث في كل مكان وفي أكثر الدول ادّعاءً للديموقراطية.

عشرات الجرائم ارتكبتها الشرطة الأميركية. على سبيل المثال؛ في حادثة  Watts riots في 11 آب 1965 التي ذهب ضحيتها 34 أميركياً من أصل إفريقي وجُرح 1032، وثار 31 ألفاً حرقوا ونهبوا وتمردوا في لوس أنجلس، الجيش الأميركي استطاع آنذاك “القضاء” على التمرد واعتقل 3800 شخص بعد أن قتل وجرح المئات. “تمرّد الواتس” هذا جرى في عهد الرئيس الأميركي “الديموقراطي” Lyndon B. Johnson

لكنّ جريمة قتل جورج فلويد أخذت نصيباً كبيراً من التغطية الإعلامية لم تحظَ به جرائم أخرى أكبر وأكثر دموية. لماذا؟ ولماذا مهسا أميني؟

دونالد ترامب الرئيس الأميركي الذي كان يجلس على كرسيّ البيت الأبيض غرّد عقب مظاهرات حزيران 2020: (الكثير من التضليل الإعلامي تنشره سي إن إن، وإن بي سي، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست… الأخبار المزيفة هي عدو الشعب). كان ترامب صادقاً في وصفهِ. وسائل الإعلام الأميركية يُسيطرُ عليها الديموقراطيّون، ويعرفُ متابعو مركز فيريل ماذا نقصد بالديموقراطيين هنا. وسائل الإعلام تلك كان هدفها الأول تحطيم شعبية ترامب قبيل الانتخابات التي جرت بعد شهور قليلة، بتحريك الشارع ضده، ونجحت نجاحاً باهراً…

الإنسان البسيط يُصدّقُ أنّ حياة الأفارقة أو حرية المرأة أو ديموقراطية الانتخابات، تهمّ حكومات وزعماء العالم.

من مينا بوليس كانت نقطة البدء لمظاهرات شملت 60 دولة و2000 مدينة حول العالم ولشهر كامل، قُتِلَ في الولايات المتحدة خلال الأيام الأولى 11 متظاهراً وجُرح المئات، بينما كانت الخسائر بالمليارات نتيجة العنف والحرائق وعمليات النهب. الولايات المتحدة اعتقلت 11 ألف شخصاً واستقدمت 63 ألف جندي لضبط الأمن وإيقاف عمليات التخريب والسرقة… تخيلتم ماذا فعلَ التحريض الإعلامي؟  

من جورج فلويد إلى مهسا أميني

 إذا انتقلنا لحادثة مشابهة إلى حدّ ما، نقرأ أنّ الولايات المتحدة فرضت الخميس 22 أيلول 2022 عقوباتٍ على ما يُسمى (شرطة الأخلاق أو الإرشاد) الإيرانية. التهمة هي الإساءة للنساء واستخدام العنف ومسؤوليتها عن مقتل مهسا أميني بتاريخ 16 أيلول الجاري عقب اعتقالها. فماذا حدث في طهران يومها؟

هل قُتلت مهسا أمينيMahsa Amini ؟

ما حدث الثلاثاء 14 أيلول 2022 حسب ما وردنا من معلومات من مصادر مختلفة هو التالي؛ مساءً كانت مهسا “جينا”، 22 عاماً، تسير مع شقيقها كيارش أميني باتجاه محطة المترو المسماة “الشهيد حقاني” في العاصمة طهران، عند السادسة مساءً. مرّت دورية من “شرطة الإرشاد” بجانبهما، فاعترضها أحد أفرادها بطريقة فجّة بسبب أنّ حجابها سيء ولا يُغطي كامل شعرها، مُطالباً الفتاة بالالتزام بقواعد الثياب المفروضة على الإيرانيات. حدث تلاسن بينهما، فقام أفراد الدورية باعتقال مهسا بشكل عنيف مستخدمة “غاز” مسيّل للدموع نُرجحُ أن يكون “رذاذ الفلفل الأسود”، واصطحبوها إلى مركز الشرطة، لتبقى هناك حتى صباح اليوم التالي.

شقيق مهسا ويُدعى “كيارش” حاول منع اعتقال شقيقته، لكنّ الشرطة أكدت له أنها إجراء روتيني وسيتم إطلاق سراحها من القسم خلال ساعة بعد تعريفها بشروط الحجاب الصحيح. انتظر كيارش خروج شقيقته أمام قسم شرطة الإرشاد ساعات طويلة، لكنّ الفتاة ولسبب ما، بدأت تفقد الوعي فاضطروا لإسعافها إلى مشفى Kasri كسرى، ويتم إعلان وفاتها بعد يومين من الاعتقال ببيان حُذف لاحقاً تحدث عن وصول الفتاة بحالة “تموت دماغي”، ثم يتغيّر التقرير…

جاء تقرير المشفى “الثاني” عن سبب الوفاة بأنه “قصور مفاجئ في القلب”. هنا كثرت الشكوك ومعها الأخبار  من الجانبين؛ معارضون أكدوا أنّها تعرّضت للضرب على رأسها مما تسبب بنزيف دماغي، بينما ذكر وزير الداخلية أنها كانت تعاني من مشاكل صحية سابقة. وبين هذا وذاك تمّ تشكيل لجنة للتحقيق.

خلال يومين من الحادثة، أجريت جنازة لمهسا أميني ودُفنت في مدينتها “سقز” بمشاركة جماهيرية واسعة وأمنية طبعاً. إلى هنا والمظاهرات محدودة ومُسيطر عليها، ليبقى السؤال: هل قُتلت مهسا؟

إيران تشتعلُ لكنها ليست المرة الأولى

هذه ليست المرة الأولى التي تجري فيها مظاهرات واسعة تتخللها أعمال عنف، فمظاهرات 15 تشرين الثاني 2019 كانت الأوسع حتى تاريخه والتي استمرت عدة أشهر، ذهب ضحيتها 341 قتيلاً، وأُحرق 871 بنكاً ودائرة حكومية، والسبب هو رفع الأسعار ثم جاء إسقاط الطائرة المدنية بالخطأ في 11 كانون الثاني 2020. هنا تدخّلَ الجيش الإيراني بقوة واستطاعت السلطات ضبط الشارع وإعادة الأمن واعتقال عدة آلاف، ولم تتمكن المظاهرات تلك من إسقاط الدولة، وهذا ما جرى في عدة دول بما في ذلك الولايات المتحدة عقب مقتل جورج فلويد مثلاً.

المشهد ذاته يتكرر اليوم في إيران؛ مظاهرات واسعة وأعمال عنف متبادلة والسبب الظاهري هو “مقتل مهسا أميني” لكنه أعمق من ذلك بكثير، وهناك جوانب أخرى للمشهد بعضها استثنائي هنا، لا يتم الحديث عنها تنطبقُ على إيران والكثير من الدول الأخرى.

الجديد هو دخول الأكراد والتركمان على الخط

أن يُردد المحتجون شعارات ضدّ اوالمرشد الأعلى علي خامنئي وشرطة الإرشاد ويسقطون النظام، أو أن يحرقوا صور خامينئي ومعها مراكز حكومية وأمنية… هذا كله حدث سابقاً.

مهسا أميني من أصل كردي، وهنا جاء استغلال ذلك من قِبَل الانفصاليين وأعداء الحكم الإيراني، فمنظمات “حقوق الإنسان” وما أكثرها والانفصاليون من أكراد وتركمان وداعموهم راحوا يصبون المزيد من الزيت على النار المشتعلة أصلاً في طهران. هذا هو الجديد في هذه المظاهرات، التي بدأت تأخذ منحنىً قومي بسيطرة الأكراد على عدة مدن صغيرة في الشمال الغربي. وهنا يأتي الدور التركي “المُحتار”؛ هل يقفُ مع التركمان ضد عدوته إيران وبالتالي سيقفُ مع الأكراد، أم العكس؟

أخطاء إيران الداخلية تتكرر

أسلوب مواجهة المظاهرات والعنف لم يتغيّر في إيران، وهو مماثل إلى حدّ ما لغيره في معظم الدول. فالخطاب الرسمي يصفُ ما يحدث بـ “مؤامرة” خارجية وسيتصدى لأعداء الثورة، كما أنّ تصريحات المسؤولين المتناقضة عن سبب وفاة الفتاة، على اعتباره السبب المباشر للمظاهرات، كانت خاطئة وزادت من اشتعال الشارع، حيث نفى،مثلاً، العميد حسين رحيمي قائد شرطة طهران، أيّ إهمال أو سوء معاملة من الشرطة عقب الحادثة وقبل ظهور نتائج أية تحقيقات مفترضة.

من الطبيعي أن تقوم السلطات الإيرانية لتهدئة الشارع بإجراءات عاجلة منها إقالة العقيد أحمد ميرزائي، رئيس شرطة الإرشاد في طهران، لكنها لم تفعل وستواجه المتظاهرين بالقوة.

القادم على إيران والمنطقة حسب رأي مركز فيريل للدراسات

من الواضح أنّ ملف إيران النووي ازداد تعقيداً واحتمال توقيع اتفاق جديد تراجع كثيراً، لهذا لابد من المزيد من الضغط على طهران. كما أنّ تعاون إيران مع روسيا في كافة المجالات والميادين، لن يمر دون عقاب.

السلطات الإيرانية “الأخلاقية” قدّمت سبباً على طبق من فضة للغرب ولوسائل إعلامه ولعشاق “حرية المرأة”، ولا تستغربوا، دخول عشاق المثليين على الخط أيضاً.  

فرض الحجاب ولباس مُعيّن، يُثيرُ حفيظة الشارع الأوروبي والأميركي، ووجود نظام أمني مختص بطريقة ارتداء المرأة في إيران للباسها، أمرٌ يثير استغراب وسخرية الغرب، وهذا ما تستغلهُ الحكومات الغربية بحيث بات خبر مقتل مهسا أميني الخبر الرئيسي لكافة وسائل الإعلام، حتى طلاب المدارس هنا في ألمانيا “شجبوا” الحادثة!

حتى وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين حشرت أنفها واصفة مهسا أميني بالمرأة الشجاعة التي واجهت الموت على يد شرطة الأخلاق المتوحشة. وأدانت بأشد العبارات هذا العمل المشين ودعت الحكومة الإيرانية إلى إنهاء العنف الذيتمارسه ضد النساء.

الاحتجاجات ستستمر ومعها العنف والشغب والمزيد من القتلى والجرحى، لكنها لن تؤدي لسقوط الدولة الإيرانية فالجيش والحرس الثوري ينتظران الإشارة فقط، الأخطر ما يقوم به الأكراد في شمال غرب إيران ولجوئهم لحمل السلاح ضد السلطات الإيرانية، يعني دماء جديدة على صخور الجبال…

دعكم من المظاهرات وأسبابها الظاهرية التي ينقل أخبارها ويتراكض وراءها العامة، فاصطفاف دول العالم يزداد وضوحاً مع تفاقم التصريحات “النووية” في الحرب الأوكرانية، وإيران اختارت المعسكر الروسي وعليها أن تدفع الثمن، كما تدفعُ سوريا وغيرها أثماناً منذ سنوات، فوضى وحرائق وانفصال، كلّ هذا قبل إعلان صافرة بدء حرب واسعة قد تصل إلى عالمية بأسرع مما يتوقعهُ ويُخطط له داعمو جو بايدن. الدكتور جميل م. شاهين. 24.09.2022