هل نصب ترامب فخاً لأردوغان شمال سوريا؟ الدكتور جميل م. شاهين

يكادُ لا يخلو خطاب لأردوغان منذ سنوات من تهديد لأكراد سوريا بشن هجوم كبير عليهم، وسحق الميليشيات الانفصالية التي تسعى لإقامة منطقة حكم ذاتي تمهيداً للاستقلال، مما يُشكلُ خطراً على الأمن القومي التركي.

الانفصاليون؛ رابحون أم خاسرون؟

لا تُقاس نتائج الحروب آنياً، بل على المدى الطويل. قد يرى البعض أنّ الانفصاليين قد ربحوا المعركة واستطاعوا الحصول على مكتسباتٍ هامة. الأمر صحيح حالياً، لكن النتيجة النهائية لن تظهر قبل سنوات…

لم يترك الانفصاليون فرصة إلا واستغلوها في مسعىً لتحقيق حلم الاستقلال، فتنقلوا بين أحضان الدول الداعمة ليستقروا في الحضن الأميركي بدعم إسرائيلي، واحتلوا أجزاء واسعة من سوريا بحجة محاربة داعش، مشكلين ميليشيات تضمّ سوريين معارضين من أكراد وعرب، مع تسليح غربي لم ينقطع عبر شمال العراق ودعم مالي جاء من نهب خيرات الجزيرة السورية الزراعية والباطنية. فجأة وجدوا أنّ الحضن الأميركي هذا قد لفظهم، وهو ما حصل في آذار 2018 عندما أعلن ترامب نيتهُ سحب قواته من سوريا، فزحفوا مستنجدين بدمشق وموسكو طالبين العون والمدد… تراجع ترامب، فتراجعوا وتفرعنوا… قرر ترامب سحب 50 جندياً فقط من قواته وإعادة تمركزها جنوب رأس العين، لتحاشي أي احتكاك مع الجيش التركي في حال قيام الأخير بعملية عسكرية، فعاد الانفصاليون للزحف نحو دمشق وموسكو… فوقعوا في الحفرة ذاتها، ولم يتعلموا… ما مصيرهم إن نفذ أردوغان تهديداته، وهل سيتبخرُ حلمهم الوردي؟

المواقف العالمية من عملية تركية

يُسيطرُ الانقسام على مواقف الدول الحقيقية وغير المُعلنة، مع سيطرة إعلامية لمعارضة أية عملية عسكرية للجيش التركي خاصة من أوروبا التي تخشى موجات جديدة من اللاجئين. في هذا السياق؛ حذرت زعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم ووزيرة الدفاع الألمانية كارنباور أنقرة من استمرار زعزعة المنطقة. ألمانيا وكما نعرف بحكم وجودنا فيها، تدعمُ مشروع الانفصاليين واستقلالهم عن سوريا والعراق، وهذا ليس بسرّ، فوزيرة الدفاع تابعت حديثها بالقول: “سنستمر في رفع مستوى كفاءة الأكراد في منطقة أربيل، وجعلهم يستمرون في استقلالهم”. أبعد حدّ يمكن أن تصل إليه ألمانيا ومعها الدول الأوروبية هو التهديد وبعض العقوبات الاقتصادية ضد أنقرة، مع تقديم مساعدات “إنسانية”…

الموقف الروسي

صرّح الناطق الصحفي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، عقب اجتماع الرئيس فلاديمير بوتين بأعضاء مجلس الأمن القومي الروسي البارحة الثلاثاء 08.10.2019، ودراسة الوضع في سوريا على خلفية التطورات الأخيرة: “جرى التأكيد على تفادي أية أعمال من شأنها أن تعرقل التسوية السلمية في سوريا“.. هذا رسمياً، أمّا بالنظر لمصالح روسيا، فالسماح بغزو تركي محدود وضرب الانفصاليين واحراج الولايات المتحدة التي تحميهم، أمرٌ جيد. هنا تكسبُ موسكو تركيا أكثر إلى جانبها ويهرول الانفصاليون إليها لأنها المنقذ الوحيد. لهذا ستكتفي روسيا بالمراقبة مع بعض التحركات الديبلوماسية والاتصالات بين الأطراف، وربما تتفق مع واشنطن حول دخول الجيش السوري إلى بعض المناطق كمنبج وغيرها… المصلحة الروسية تتشابه إلى حدّ ما مع مصلحة سوريا، سنناقشها بعد قليل.

الموقف الإيراني

من مصلحة إيران أن يتم سحق الانفصاليين في سوريا، ليكون ذلك درساً للميليشيات الكردية المسلحة التي تهاجم باستمرار قواعد الحرس الثوري والجيش الإيراني، كحزب الحياة الحرة الكردستاني “بيجاك” الذي يُقاتل من أجل الحكم الذاتي شمال غرب إيران، وتتهمه طهران بالارتباط بمسلحي حزب العمال الكردستاني في تركيا، وتقوم بقصف مقراته على الحدود مع شمال العراق وتتهم أربيل بدعمه.

العملية التركية إن حصلت، ستزيد من بعد أنقرة عن واشنطن وأوروبا، وهذا في مصلحتها أيضاً… لكن بالمقابل؛ من مصلحة إيران أن تبقى الأراضي السورية موحدة تحت حكومة مركزية قوية تربطها بها علاقات قوية، لهذا تسعى للتقريب بين أنقرة ودمشق، وتُفضّل أن يُسيطر الجيش السوري على الشمال وبالتنسيق مع الجيش التركي وميليشياته.

إلى أيّ مدى يمكن أن تمضي تركيا؟

المتتبع لتصريحات الزعماء الأتراك، يجد أنهم كثيرو التهديد قليلو التنفيذ، وهم محكومون بالضوء الأخضر من موسكو وواشنطن في أية عملية عسكرية في سوريا، لهذا نرى هذا التردد والخوف من الغرق في المستنقع، رغمَ أنّ الأمر يتعلّقُ بالأمن القومي التركي.

الوضع التركي دقيق وخطير، وأية مغامرة عسكرية يجب أن تكون مدروسة تماماً، فالخطأ سيكون قاتلاً لحكم أردوغان. بنفس الوقت؛ التراجع عن عملية عسكرية سيُظهره على صورته الحقيقية أنه مجرد ظاهرة صوتية، والتي حاول على مدى سنوات طويلة تقديم نفسه للعالم الإسلامي على أنّه “خليفة المسلمين”، وصدقتهُ الملايين.

تركيا أعلنت البارحة الثلاثاء، للمرة العشرين ربما، استكمال الاستعدادات لشن عملية عسكرية ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية بشمال شرقي سوريا، وكما ذكرنا البارحة في مركز فيريل للدراسات؛ قامت المدفعية المدفعية التركية باستهدف ميليشيات قسد في رأس_العين و شوارغة و المالكية بريف حلب. بينما جرت اشتباكات بين إرهابيين من الجيش الوطني التابع لأردوغان وميليشيات قسد في مرعناز غربي إعزاز، مع تحرّك عشرات المدرعات التركية باتجاه الحدود السورية ليلاً…

من المتعارف عليه عسكرياً أثناء الحروب، أنه عندما يقترب الجيش من حقل للألغام، يدفع بقطعان من الدواب والماشية لدخول هذا الحقل، فتنفجر الألغام بالقطيع وتقلّ خسائرهُ البشرية… لهذا من الغباء أن يُغامر أردوغان بجيشه، والواضح أنه سيستخدم الإرهابيين في حقل الألغام مع بقاء جيشه في الخلف. العملية قد تبدأ في أية لحظة… وقد لا تبدأ ويكتفي بمناوشات ومعارك متفرقة تقوم بها المجموعات الإرهابية التي يُسميها “الجيش الوطني”، بدخول المناطق وشن حرب طويلة من غرب الفرات إلى المالكية. هي عملية خلط أوراق يُشارك بها الجميع. الجيش التركي سيكون داعماً في الخطوط الخلفية مع قصف مواقع الانفصاليين بالمدفعية والصواريخ، بينما حركة الطيران الحربي ستكون مُقيّدة، بسبب قرار واشنطن وقف مشاركة تركيا ضمن التحالف. رغم ذلك يمكنه قصف المواقع جواً من داخل الأراضي التركية.

هل هو فخّ لتركيا؟

بجميع الأحوال؛ هي مغامرة خطيرة بات على أردوغان دخولها والنجاح فيها سيكون صعباً للغاية.

هدد الرئيس الأميركي بتدمير اقتصاد تركيا إن تجاوزت الحدود، هذه طريقة تحريضية يتبعها البعض مع الأطفال لفعل العكس. وهو ما يريدهُ ترامب فعلاً، يريدُ جرّ أردوغان لدخول المستنقع السوري والغوص أعمق. فدخول تركيا حرب عصابات سيدمرها دون شك، ويشعل المنطقة برمتها، في سوريا والعراق وشمال غرب إيران وتركيا. حزب العمال الكردستاني سيتحرّك ويضرب المؤسسات التركية، وسوف تشتعل المدن الرئيسية بالمظاهرات والعنف مثل ديار بكر وماردين وحتى استنبول، وسوف تمتدُ المظاهرات والاقتتال بين الأكراد والأتراك إلى هنا في برلين نفسها والعواصم الأوروبية. أيضاً ستتحرّك خلايا داعش وتنشط في عدة مناطق وتقاتل الجميع…

نعم يستطيعُ ترامب تدمير اقتصاد_تركيا وبعدة تغريدات وعقوبات، وهذا ما حصل نموذج مُصغّرٌ منه في تموز، لهذا سارعت روسيا لتخفيف الاحتمالات، وقعت اتفاقاً مع تركيا أيضاً البارحة الثلاثاء، لاعتماد عملتي البلدين الروبل والليرة في المدفوعات والتسويات بينهما، أي التخلي التام عن الدولار الأميركي في التجارة بينهما. هو إجراء غير كاف طبعاً.

الانقسام بين زعامات الولايات المتحدة حول خطوة سحب الجيش الأميركي، كبير. ولو تُرك الأمر لترامب، لانسحب اليوم، لهذا كل حديث عن انسحاب سابق لأوانه، رغم أنّ خطة الرئيس الأميركي واضحة: فلننسحب ونتركهم يتصارعون. معارضو الانسحاب لا يريدون أن تظهر الولايات المتحدة بأنها تغدر بحلفائها الأكراد، وكأنّ واشنطن مثال للشرف والنزاهة والإخلاص!!. هم يريدون تقسيم سوريا دون شك، وخلق دويلات متناحرة إلى الأبد من أجل إسرائيل.

مصلحة سوريا أين؟

سبق وذكرنا أنّ مصلحة الجيش السوري هي الانتظار وعدم التدخل في عدة مقالات نشرناها على موقع مركز فيريل للدراسات… رأينا لم يتغيّر… لماذا؟

سحب أردوغان آلاف من إرهابيي ريف حلب الغربي وبعض مناطق إدلب، وزجهم في “جيش الإخوان المسلمين” لمحاربة الأكراد. أرقام كبيرة عن تعداد هذا الجيش قد يكون مبالغ فيها لكنهم بالتأكيد عشرات الآلاف. اشتباكهم مع الانفصاليين سيستنزف الطرفين عدداً وعتاداً. الطرفان هدفهما واحد، وهو اقتطاع جزء كبير من سوريا، لهذا نراهما بكفة واحدة؛ إرهابيون يدينون بالولاء للدولة العثمانية ويسعون للانضمام إليها، وانفصاليون دخلوا سوريا عام 1925 هاربين من بطش العثمانيين، جاؤوا بالاحتلال الأميركي ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع تل أبيب، يسعون لإقامة دويلة على الأرض السورية. فكيف يردد الببغاوات “على سوريا الوقوف مع أبنائها”؟!! وهل يكونُ ابناً مَن يأتي بالعدو لاحتلال أرضك؟

المصلحة السورية هي ألا ينتصرَ أي طرف، والخسارة أن ينتصر أحدهما نصراً كبيراً، لهذا يجب أن تتدخل دمشق في الوقت المناسب… في الوقت المناسب فقط. المعادلة دقيقة ولابد من اتخاذ القرار في اللحظة الحاسمة.

الأمور معقدة لكنها بنظرنا واضحة، وأوراق دمشق مهما حدث تبقى قوية… حكومة الإنقاذ في عينتاب تدعمها تركيا والناتو وهي التي يخططون لها منذ سنوات لاحتلال دمشق، هذه الحكومة تمتلك جيشاً سيحاربُ حلفاء الناتو من الانفصاليين، وهو قمة التناقض في مصالح أعداء سوريا. دعوهم يتحاربون… استغلوا الفرصة في إدلب وغربي حلب وريف اللاذقية… مع بقاء عيونكم مفتوحة على ما يجري في الجزيرة السورية، وجيشكم جاهز للتحرك إلى هناك في أية لحظة، ومعه بعض الصواريخ” التي تدكّ أوكار الإرهابيين إن تقدموا بعيداً… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. Firil Center For Studies. Berlin. Germany

الأبواب مفتوحة على كافة الاحتمالات، من مجرد مناوشات إلى فوضى شاملة. لكن أفضل السيناريوهات أن يشتبك الطرفان ثم يطلب مجلس الأمن تدخل الجيش السوري…