التحول الرقمي Digital transformation تحقيق الإعلامي عماد قلعجي. الجزء الثاني

التحول الرقمي Digital transformation تحقيق الإعلامي عماد قلعجي. الجزء الثاني

ذكرنا في الجزء الأول أنّ التحول الرقمي  Digital transformation هو باختصار: تطبيق التكنولوجيا الرقمية في كافة جوانب الحياة، بحيث يتراجع الاعتماد على الأجهزة الخاصة إلى العامة، ويتم خلالهُ نقل نشاطات وفعاليات وأعمال الفرد والقطاعات كافة من مؤسسات حكومية وخاصة والشركات والمصانع والتعليم والصحة… التي كانت مرتبطة بجهاز خاصّ، إلى أجهزة عامة مملوكة لشركات برمجيات كبرى مرتبطة غالباً بالدولة. الهدف الرئيسي هو تطوير الأداء التقني وتوفير الوقت والجهد وتقديم خدمات أفضل وأسرع.

هل يعلم العامة معنى التحول الرقمي؟

تسأل أحد المواطنين في الشارع ماذا يعني بالنسبة لك التحول الرقمي والمجتمع الالكتروني، فيقول أنه اشترى ساعة ذكية يمكن ربطها بالموبايل بدل الساعة العادية، آخر يقول ممازحاً أنه بدأ “بشرب الأرغيلة الالكترونية عوضاً عن العادية”.

معظمنا لا يعرفُ بدقة أنّ التحول الرقمي يتضمن توفير الخدمة بصورة فردية وبجودة عالية وبتكلفة منخفضة لكل الأشخاص دون الحاجة إلى التواجد المادي للحصول على الخدمة، بحسب Houlin Zhao من مواليد 1950 الصين، وهو الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات وأحد نجوم الثورة الصناعية الرابعة (ثورة نظم المعلومات): “كل شيء أصبح متاحاً بضغطة زر وبإمكانك مشاركته بضغطة زر أخرى”.

لم تعد مهمة الإنترنت والويب لتقديم المعلومات وحسب، بل أصبحت لتقديم الخدمات الأساسية وهي الوسيط بين طرفين على الأقل، ويمكنها تقديم عدة خدمات في عدة أماكن منفصلة تبعد آلاف الكيلومترات ثم تعود لتجميعها بمنصة واحدة هي الموبايل مثلاً، وأنتَ جالس مكانك لم تتحرّك خطوة واحدة. يمكنك قراءة “عدّاد” المياه والكهرباء والغاز وإرساله للشركة المختصة، وتحويل مبلغ لجامعة ابنك الذي يدرس في الولايات المتحدة، والحصول على موعد لتغيير زيت محرك سيارتك، وطلب شراء أثاث مكتب من الصين، وحجز فندق في الكاريبي… وأنتَ جالس في برلين. وهذا كله جزءٌ بسيط من الخدمات التي تُقدّم منذ عشرين عاماً في أوروبا عبر التحوّل الرقمي…

اليوم بدأت الخطوة الثانية للتحول الرقمي هي ربط الخدمات الحكومية بالشبكة أو بقاعدة بيانات واحدة على مستوى الدولة، مدفوعة بانخفاض تكاليف استخدام الانترنت، وزيادة عدد مستخدميها وسهولة استخدامها.

بدايات التحول الرقمي

حسب مُدرّسة مادة المعلوماتية السيدة سماح: “بدأ الأمر مع دخول الحواسيب بصورتها البدائية لمنازلنا مع بداية الألفية، وحول شيئاً فشيئاً ألبومات الصور العائلية والمكتبات بنوعيها الورقي كالكتب والمغناطيسي (كاسيت -في سي آر) إلى بيانات رقمية مطبوعة على أقراص ليزرية (سي دي-دي في دي)، والتي انتقلت بدورها من حالتها المادية إلى ميغابايتس في وسائط التخزين المختلفة، من ثم انتفت الحاجة إلى وجود هذه المكتبة أساساً مع الوصول اللامحدود لأعظم تجمع معرفي عرفته البشرية وهو الانترنت”.

مع الوقت تحولت عملية الدراسة في الجامعات والمعاهد من عملية استنساخ الكتب والكراسات ذات الحجم الهائل والمكلفة للطالب، إلى ملفات رقمية على وسائط محمولة يسهل الوصول اليها ونسخها عبر الحاسب أو اللاب توب، الذي استبدل لاحقاً ببديل أكثر كفاءة وأخف وزناً (التابليت).

الإنترنت خزان المعلومات ووسيلة الاتصال

قلل الانترنت الحاجة إلى التواصل المكاني بين الناس للحصول على المعلومات المختلفة، كالهاتف تماماً لكنه لا يحتاج طرفي اتصال فعالين في الوقت نفسه، وأصبح بوابة تواصل بشري مجاني لامحدود عبر البريد الالكتروني (الإيميل) والذي يتم الحصول عليه مجّاناً مقابل إدخال معلومات خاصة بالمستخدم في موقع معين.
بدون هذه المعلومات، حتى لو كانت وهمية، لا يمكن لأي مستخدم أن يملك بريداً الكترونياً. تمت عملية ربط هذا الفرد بمحيطه المكون من الأشخاص الذين يتفاعل معهم كزملاء العمل والأصدقاء والعائلة، ثم جاءت المحادثات الجماعية بدل الثنائية عبر غرف الدردشة والمدونات، كل ذلك كان قابلاً للضياع في حال نسي المستخدم كلمة المرور أو استبدل الإيميل بآخر، لكن بقيت عملية التواصل محدودة بالكتابة أو تبادل المحتوى النصي والصور.

تطورت الشبكات فقدمت خدمة تواصل صوتي عبر تطبيقات مختلفة بتكلفة منخفضة جداً مقارنة بخدمة الهاتف، وخاصة في مجال الاتصالات الدولية ثم اتبعها بخدمة التواصل المرئي، وتحول الانترنت من خزان معرفي يضم خدمات معلومات وخدمات إخبارية وأرشفة، إلى وسيلة تواصل عالمي بسبب انخفاض تكلفتها وسهولة استخدام مختلف الخدمات المقدمة فيها وبدأت شيئاً فشيئاً تنتشر بين عموم الناس الأمر الذي ساهم بابتكار ما يسمى “وسائل التواصل الاجتماعي”

وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع الرقمي العالمي

تطورت وسائل الاتصال بين البشر من الإشارات باستخدام النيران والدخان إلى الطبول إلى الرسائل بعد اختراع الكتابة على يد السومريين، ثم استخدام الحمام الزاجل والبريد إلى الهاتف فالبريد الإلكتروني، لتصل اليوم إلى لمس صورة الشخص المطلوب وإرسال رسالة صوتية أو كتابية أو مرئية خلال ثوانٍ.


أي تحوّل الشخص إلى رقم مبرمج إلكترونياً والفكرة هذه انطلقت منها وسائل التواصل الاجتماعي مُقدّمةً مجتمعاً رقمياً عالمياً يضم مليارات الأرقام على أقل تقدير.

هنا جرتْ عملية ربط وتصنيف البشر ضمن فئات تعتمد إدخال بيانات صحيحة، لتضمن للمستخدم وجوده ضمن دائرة الأشخاص المطلوبة، سواء كانوا مرتبطين مكانياً من خلال البلد أو المدينة أو العمل والدراسة، أو عمرياً وحتى ثقافياً من خلال اهتمامات مشتركة تحددها خوارزميات معقدة ترصد و تراقب سلوك المستخدمين أحياناً دون علمهم أو إذنهم المباشر، رغم ذلك كان الشيء اللافت هنا؛ مستوى الانتساب غير المسبوق لهذا المجتمع كانت بسبب سهولة و مجانية الوصول للخدمة.

مع استبدال منصة الدخول لهذه المواقع من الحواسب إلى أجهزة الهاتف اللوحية، أصبح رقم الهاتف الخليوي الخاص أحد البيانات الأساسية الواجب إدخالها ليستعمل كوسيلة لحماية الحساب أولاً، ووسيلة لربط هذا الحساب (اختيارياً) بالأشخاص المرتبطين بجهات الاتصال المرتبطة بهذا الرقم والمخزنة على ذاكرة الجهاز لتقدم مزيد من خيارات التواصل لأشخاص قاموا بالفعل بربط حساباتهم برقم هاتفهم الخاص، لتظهر في خانة ” أشخاص قد تعرفهم”.

التحوّل الرقمي وكورونا

بغضّ النظر عن التناقض حول وباء كورونا وانتشار نظريات لا حصر لها بما في ذلك حول اللقاح، ما نراهُ في مركز فيريل للدراسات أنّ الوباء تمّ استغلالهُ إلى أبعد الحدود لتحقيق أهداف سياسية وتجارية واجتماعية، قد نبحثها يوماً إن تراجعت الرقابة اللصيقة في هذا المجال…


مع تنامي عمليات الإغلاق والحجر الصحي شبه العالمي، توسّعت “عن قصد” الخدمات عبر الشبكة واستخدامها بصيغة شاملة، لتعزيز مصطلح “التباعد الاجتماعي”، (لاحظوا هذا التعبير… تباعد إجتماعي!!) والهدف تقليل خطر الإصابة بالكورونا. هنا ازدادت أرباح شركات الاتصالات والشركات التي تقدم الخدمات الالكترونية كالتسوق والترفيه وتحولت عملية التحول الرقمي من رفاهية و شر لا بد منه، إلى ضرورة لأغلب الشركات على الصعيد العالمي وللناس أيضاً، وقد تمكنت بعض هذه الوسائل من إزاحة وسائل الإعلام و الترفيه التقليدية مثل السينما والتلفاز والراديو والمتاحف وإبعادها عن نطاق الاهتمام، فبرزت قدرة الوسائل الرقمية على القيام بدور أكثر جدية في تقديم الخدمات المختلفة للمجتمع… وهذا كان “بروفا” للمستقبل…

أنتَ مُراقب حتى في غرفة نومك!!

لا حاجة لإرسال جواسيس لدول أخرى وتكلفة بعشرات ومئات الملايين، أو زرع عناصر مخابرات أمام منزلك وبيدهم جريدة لمراقبتك 24 ساعة، إنه جاسوس بل جواسيس في كل زاوية؛ معكَ في العمل وأثناء تناول الطعام وفي المواصلات وحتى في غرفة نومك… أنتَ الذي تدفع لهم لمراقبتك وتعطيهم المعلومات حتى عن لون سروالك الداخلي وتدري ولا تدري… شاهدوا الصورة عن الساعة المنتشرة حول العالم منذ سنوات، بمراقبتها وهي المرتبطة بالموبايل، يمكنهم معرفةُ كل شيء عنك؛ متى تستيقظ وكم ساعة تنام، حتى أثناء نومك… متى كان نومك عميقاً أو سطحياً. يعرفون كم سعرةً حرارية تناولت وكم هو ضغط دمك وحالتك النفسية. متى قمتَ بأعمال مجهدة أو رياضية. أين كنتَ وفي أية غرفة موجود الآن… هواياتك واهتمامتك ومواعيدك… هذا مثالٌ بسيط فقط.

لهذا فالطرفة الافتراضية المعروفة هي حقيقية، وتتحدث عن شخص يطلب بيتزا من أحد المطاعم، فيتفاجأ بأنّ المطعم أصبح مملوكاً من شركة غوغل. هنا يبدأ موظف الخدمة بسرد الكثير من التفاصيل التي تتعلق بنمط حياة الزبون و عاداته الغذائية ومستوى سكر الدم لديه بشكل مستفز، بهدف إقناع الزبون بطلب بيتزا بالخضار بدل البيتزا بالجبنة. يغضب الزبون و يقول أنه سيترك البلاد إلى جزيرة مهجورة لاوجود فيها لا للإنترنت و لا غوغل، فيقول له موظف البيتزا نفسه أنه لا يمكنه ذلك لأن جواز سفره منتهي الصلاحية!

هذا جزء مما يحمله التحول الرقمي؛ ربط وتحويل السجلات والبيانات الحكومية الورقية في كل مؤسسة على حِدة إلى قاعدة بيانات واحدة مشتركة، بحيث يرتبط اسم الشخص بصورة تلقائية بسجله المدني والعدلي ومنصبه الوظيفي مع ما يملك من عقارات ومركبات و مكان سكنه و رصيده البنكي!
وهو أمر رائع إذا كنت تعرف من سيمتلك هذه المعلومات ومن يتحكم بها ومن سوف يستخدمها وهل هو مؤتمن عليها ويوثق به؟
نكتفي بهذا القدر ونتابعُ معكم في الجزء الثالث “التحول الرقمي في سوريا”. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. شبكة آرام برس الإخبارية. 16.06.2021