التحول الرقمي Digital transformation تحقيق الإعلامي عماد قلعجي. الجزء الأول

التحول الرقمي  Digital transformation هو باختصار: تطبيق التكنولوجيا الرقمية في كافة جوانب الحياة، بحيث يتراجع الاعتماد على الأجهزة الخاصة إلى العامة، ويتم خلالهُ نقل نشاطات وفعاليات وأعمال الفرد والقطاعات كافة من مؤسسات حكومية وخاصة والشركات والمصانع والتعليم والصحة… التي كانت مرتبطة بجهاز خاصّ، إلى أجهزة عامة مملوكة لشركات برمجيات كبرى مرتبطة غالباً بالدولة. الهدف الرئيسي هو تطوير الأداء التقني وتوفير الوقت والجهد وتقديم خدمات أفضل وأسرع.

كالعادة، الفكرة بدأت هنا من ألمانيا على يد Gottfried Wilhelm Leibniz عالم الرياضيات والفيلسوف والمحامي الألماني مؤسس علم التفاضل والتكامل مع نيوتن عام 1703، نعم 1703 تحدّث العالِم الألماني صاحبُ الـ17 مهنة في كتابه Explication de l’Arithmétique Binaire عن مبدأ الرقمنة، ليتطور هذا المبدأ على يد عدة علماء فيكون عام 1939 اختراع أول حاسوب إلكتروني، ثم حاسوب شخصي 1950، ثم World Wide Web Consortium 1989، وابتداءً من عام 2000 بدأت العملية في أوروبا التي تجاوز فيها التحول الرقمي 15%، وحسب معلومات مركز فيريل للدراسات فألمانيا مازالت تحاول الاستقلالية في العملية هذه، وسنبحثُ عن معنى الاستقلالية لاحقاً. بينما التحوّلُ هو أعلى من 20% في الولايات المتحدة وبريطانيا، والهدف النهائي أن يتمّ التحوّل الرقمي الشامل قبل عام 2030.

أهداف التحول الرقمي

بعيداً عن غايات الشركات الربحية والأجهزة الحكومية التجسسية، للتحوّل الرقمي أهدافٌ أساسية؛ زيادة الإنتاج وتسريعه وتحسين جودة المنتجات. تطبيق خدمات سريعة مبتكرة وحلّ المشكلات التي تُسببها الطرق التقليدية. ثورة على الطرق القديمة في الإنتاج والعمل وتنفيذ المهمّات باختلاف أنواعها واستبدالها بطرق حديثة تعتمدُ على التكنولوجيا في معظم مراحل الإنجاز. كلّ هذا يؤدي لخلق جيل تخصصي مبدع مبتكر. لاحظوا أن أحد أهم الأهداف هو اختصار الزمن وتوفير الجهد.

مساوئ التحول الرقمي

التحول الرقمي عملية معقّدة تحتاجُ لفترة تدريب طويلة وشاقة ولخبراء اختصاصيين، تليها مرحلة تدريب العامة ممن سيستخدمون هذه التقنيات الحديثة كالعمال والموظفين، ولعل أسهل تدريب سيكون لطلاب المدارس والجامعات… كلّ هذا عملٌ شاقّ ومُكلف. الوصول النهائي للتحوّل الرقمي يعني الاستغناء عن عشرات وربما مئات الملايين من الأيادي العاملة، وهذا سيرفعُ نسبة البطالة. سيئةٌ أخرى؛ الأشخاص الذين لا يستطيعون لسبب ما تعلّم التقنيات الرقمية الحديثة، سيجدون أنفسهم خارج المجتمع وكأنهم يعيشون في كوكب آخر. طبعاً؛ مع التحول الرقمي تنتفي الخصوصية ويصبحُ الفردُ صفحةً مفتوحة أمام الشركات ومَنْ يقف وراءها… وهذا ينطبقُ على الدولة أيضاَ…

 التحوّل الرقمي في سوريا

بعد هذه المقدمة دعونا ندخلُ ضمن البحث الذي أجراه الإعلامي عماد قلعجي. عُقد في سوريا المؤتمر الدولي للتحول الرقمي في الفترة من 9 إلى 11 نيسان 2021، فهل أصبحت البلد جاهزةً لهكذا عملية تكنولوجية معقدة، وهل يمكن ضمن الإمكانيات المتوفرة تطبيقها فعلياً، في ظل الواقع المعيشي والغلاء وتوحش التجار والترهل الإداري والفساد الواسع؟

(العمل على إحداث منصب وظيفي للتحول الرقمي في كل جهة حكومية)


يمرُّ الخبر على شاشة الموبايل لأحدهم وهو يجلس على كرسي في باص مكتظ، فيما ترمقه عشرات العيون بنظرات الغيرة لما أوتي من حظ عظيم فهو جالس وهم واقفون، يطالعون معه ما يظهر على شاشة هاتفه عالي التقنية متأففين.
قبل أسبوعين كانت وزارة الأوقاف تلتمس هلال شهر رمضان، بينما ينشغلُ المواطنُ السوري بمقارعة أزمات الغلاء والنقل والمعيشة وحيداً، يتلمس طريقه باستخدام ضوء أجهزة الهواتف الذكية مع شبه إنعدام للتيار الكهربائي. في هذا التوقيت وتزامنناً مع الإعلان عن أكبر تسريب لبيانات مليار مستخدم فيس بوك من ضمنها بيانات ملايين السوريين؛ بشّرنا وزير الاتصالات المهندس إياد الخطيب بتحول سوريا إلى دولة رقمية عام 2030 في تصريح له ضمن فعاليات مؤتمر التحول الرقمي الثالث، الذي يبدو للوهلة الأولى أنّ منظميه وضيوفه ضلّوا طريقهم فحطوا رحالهم في دمشق وليسَ في دبي.

في الحقيقة لم يضلّوا طريقهم فالفرصة الاستثمارية المثلى التي تشكلها سوريا بانتظار من يغتنمها؛ بلد خرجت للتو من حرب دمرت معظم بناها التحتية، تخضع لعقوبات تجعل منها أقل انتقائية وأكثر انفتاحاً لكافة الخيارات، فرصة أكبر من أن يتم تضييعها خوفاً من غضب الإدارة الأمريكية التي بإمكانها بأي وقت فرض عقوبات على الأفراد والشركات التي تقدم أي نوع من الخدمات أو الدعم للحكومة السورية.

الحلّ الرقمي السوري


بينما كان العالم يحصي مكاسب الخدمات الإلكترونية وارتفاع أسعار أسهم الشركات العملاقة كأمازون، والقيمة السوقية لشركة زووم وأكوام الدولارات التي تمثلها العملة الرقمية “البتكوين”، بما يشبه حمى ذهب جديدة اجتاحت العالم، بدأت الحكومة السورية بعد استعادة السيطرة العسكرية على ثلثي مناطق سوريا، بالمرحلة الثانية المتمثلة بالإشراف وإعادة تنظيم الاقتصاد الوطني، لكنها اصطدمت بمشكلتين داخليتين أساسيتين أولهما الفساد وثانيهما وجود كتلة نقدية كبيرة في السوق تستخدم للمضاربة بالليرة والعقارات. فوجدت ضالتها بعملية الرقمنة التي تضمن المزيد من الرقابة على مختلف العمليات الاقتصادية، والحد من التهرب الضريبي، وتقليل خطر المضاربة وضمان استقرار سعر الصرف عبر تحويل الكتل النقدية الموجودة في السوق إلى البنوك، بالتالي توجيه الاقتصاد نحو مشاريع إعادة الإعمار.


تمثلت المرحلة الأولى بالعمل لاستعادة دور البنوك بالحركة الاقتصادية عن طريق الربط القسري بين عمليات البيع والشراء والحسابات البنكية، وتحجيم دور شركات الحوالات لصالح المصارف العامة والخاصة، وتفعيل خدمات الدفع الالكتروني، وتبقى الأيام وحدها قادرة على تحديد أثر هذه الإجراءات سلباً أو ايجاباً على الاقتصاد السوري، فالأعمال تقاس بالنتائج لا بالنوايا.

التحول الرقمي في سوريا وأفلام هوليوود؟


مع الحديث بجدية عن الحكومة الرقمية لا يمكننا إلا تذكر فيلم “The Net  الشبكة 1995″، عندما وجدت بطلة الفيلم أنجيلا بينيت Sandra Annette Bullock نفسها دون هوية أو بيانات شخصية حيث قامت إمرأة أخرى بسرقة حتى شخصيتها. فيلم “سنودن 2016” يتحدثُ عن كيفية المراقبة التي تقوم بها الولايات المتحدة وحجم الداتا الهائل التي يتم استخدامها لتطويع الشخص موضوع المراقبة، وفي أحد المشاهد تفشل عملية اختراق لمخدم الإنترنت في سوريا وتتسبب بانقطاع تام للإنترنت. يبدو الأمر بعيد الحدوث لكن قد يبرر ولو بصورة درامية “نظرية الخلل فني” الذي لا تعرف أسبابه والذي تسبب بانقطاعات الانترنت في سوريا مرات عديدة أشهرها في شهر أيار من العام 2013 والذي يقفُ وراءهُ سمك القرش المتآمر…
تنبأ فيلم “ماتريكس 2000” بالسيناريو الأكثر سوداوية؛ لبشر لن يعيشوا في الواقع الحقيقي بعد الآن وسيتم وصلهم بشبكة تستحوذ على وعيهم وتجعلهم عبيداً للنظام السيبراني الذي جعلهم ببساطة بطاريات… هذا في الأفلام، ومتى كانت هوليوود تُنتجُ أفلاماً دون أهداف بعيدة؟ هنا نطرحُ السؤال الأهم: هل نحن مستعدّون حقاً للتحول الرقمي؟

هل سوريا مُستعدّة للتحوّل الرقمي؟

أوحى انتشار استخدام الانترنت للبعض أن تطبيق التحول الرقمي في سوريا يمكن أن يتم بكبسة زر أو بعمل المؤتمرات والندوات وتقديم التوصيات هنا وهناك، أو يتم بصرف الميزانيات على المواقع بغض النظر إن كانت مستخدمة أساساً، وأن هذا التحول بحسب الخبير الاقتصادي “طلال أبو غزالة” تحول حتمي ويتم بواسطة الأطفال! دون الحديث عن تأهيل عموم المواطنين.
من المعروف أنه ليس من السهل تغيير الأساليب القديمة للعمل، الأساليب التي اعتاد عليها المستخدمون طوال حياتهم، وأن مقدار اعتناق المستخدم للأساليب الحديثة تعتمد بالأساس على ثقته بأن هذه الممارسات سوف تجعل حياته أفضل، فكم من المشاريع فشلت بسبب عرقلة البعض لإجراءات تحديث البنى التحتية، ظناً منهم أنها مقدمة للاستغناء عنهم أو استبدالهم!
بالطبع هناك بعض الجوانب التي أثرت بها التقنية بشكل أو بآخر بحياتنا لكننا بقينا مستهلكين للتكنولوجيا والأمر هنا ليس تنزيل أغنية وليس تصفح فيس بوك! نتحدث هنا عن تغيير العقيدة السائدة لدى عموم السوريين أنّ الإنترنت ليس أكثر من أداة ترفيه وعالم بلا ضوابط وأي شيء مباح فيه، وطالما أنك تدخل باسم وهمي فبإمكانك عدم تحمل مسؤولية أفعالك… لا إنترنت مجاني للتسلية بعد اليوم، كل شيء مُراقب… كلّ شيء…

السرية وحماية البيانات

هذه الخدمة غير متاحة في بلدك… تخدم التكنولوجيا من يملكها ومن يقدر على فك شيفراتها، أمّا المجتمعات التي اعتادت الاستهلاك وتظنّ أنّ الله خلقَ الدول المتطورة لخدمتها، فستجدُ نفسها قريباً في العراء…

ترفضُ الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب الخبير الاقتصادي طلال أبو غزالة، وضع قوانين تنظم عمل الانترنت. إذاً؛ من يحمي حقوق المواطن إذا كان القانون لا يحمي المستغفلين وليس فقط المُغفلين! ما الذي يضمن أن تكون البيانات الشخصية للمواطن السوري على الأقل محمية؟ ما الذي يمنع ما حدث بالأمس عندما استيقظ السوريون على تعطل كافة بطاقات الصراف الآلي، لأنّ الشركة اللبنانية المشغلة اتجهت نحو وقف العمل مع المصارف السورية بحجة العقوبات الأميركية… مَنْ يضمن ألا يتكرر مع النظام المصرفي ككل، بحيث يجعلنا غير قادرين على سحب مدخراتنا، وهذا أبسطُ مثال…
ما الذي يمنع توقف البلاد بشكل كامل في أوقات قطع الانترنت والاتصالات التي عودتنا عليها وزارة التربية مع بداية امتحانات الشهادتين؟
ما الذي يمكننا فعله كيلا نرى عبارة “هذه الخدمة غير متاحة في بلدك”؟ 

التحول الكبير بدأ عام 2020
حملت بداية 2020 بل السنة بأكملها الكثير من المفاجآت، فانتشر وباء كورونا الجديد القديم وغزا العالم. تبع ذلك إغلاق تام أو شبه تام للفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعملية المختلفة، وجاءت عمليات تعزيز التباعد الاجتماعي التي دفعت بأسهم شركات الرقمنة لتحقيق مكاسب خيالية. كل هذا لم يكن صدفة ولا مفاجأة لهم…

الصين أطلقت عملية تسخير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لأهداف تجسسية داخلية وخارجية، مثل التتبع والتعرف على الوجه كوسيلة للسيطرة على حركة الأفراد بالتالي السيطرة على انتشار فيروس كورونا، وكانت الأولى عالمياً عبر شركة بايدو، كما في الصورة. هذه التقنية يمكنها أيضاً معرفة الكثير عن الأفراد لدرجة يمكن التحكم بسلوكهم إلى حد بعيد. لا توجد قوانين عالمية حتى الآن تنظم عملية استخدام الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على الخصوصية والحرية الشخصية واستخدام البيانات، حتى سياسياً لا توجد نيّة لوضع المعايير والقواعد المنظمة… إذاً؛ أصبح الشخص مكشوفاً لدى مروره في أية منطقة تستخدم الذكاء الصناعي… لا خصوصية بعد اليوم…

لا خصوصية بعد اليوم


نعود إلى سوريا، هل فتح المشروع الحكومي الجديد نحو التحول الرقمي الباب أمام شركات عابرة للقارات؟ في حين لم تتبلور عملية حماية الشركات المحلية التي تقدم نفس الخدمات، تماماً كما حدث منذ عشر سنوات مع إغراق السوق السوري بالمنتجات التركية وأدى لتوقف عشرات المنشآت الصغيرة التي لا تقدر على المنافسة.
إن بدأ بالفعل التهافت على تقديم الخدمات الرقمية مثل خدمات فتح الحسابات الرقمية لبعض البنوك الخاصة، وخدمات الدفع الالكتروني، يبقى السؤال كيف السبيل لحماية البيانات إذا ما قررت الحكومة مواكبة العصر وتحويل كل بيانات مؤسساتها الخدمية إلى الرقمية، ثم قررت الولايات المتحدة الأمريكية قطع بعض خدمات الانترنت عنها تحت مسمى العقوبات.

إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. تحقيق الإعلامي عماد قلعجي. شبكة آرام برس الإخبارية. 27.05.2021