بعد 70 عاماً من التهديد والدعاء على إسرائيل، ترامب يمتطي العربان أكثر. الدكتور جميل م. شاهين

لم يُفاجئنا إعلانُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، وهو ما توقعناه بمركز فيريل ضمن أحداث 2017، وكون الخبر جرى بعد تمهيد لشهور واتصالات بالزعماء في عدة دول عربية وأجنبية.

ترامب بأمس الحاجة الآن لدعم صنّاع القرار الحقيقيين في الولايات المتحدة، بعد مواجهة حامية بين الصقور والحمائم في إدارته. كوشنر انتصر لداعميه وإن كان بعيداً “ظاهرياً” عن البيت الأبيض بعد تمثيلية طردهِ مع إيفانكا، والإدارة الأميركية الحالية ليست على هذه الدرجة من الغباء؛ فترامب المترنّح بعد فضائح داخلية وفشل خارجي، والمطالبة بتنحيه باتت تأتي حتى من أعضاء حزبه، تركَ (ورقة القدس) لحين الطلب، وجاء الطلب والأصح “ورقة الإنقاذ”، فلينشغل العالم بما في ذلك الأميركيون بالآتي، ولينسوا قضية إقالة ترامب… فما هو الآتي؟

الصحافة الأميركية اليوم الخميس، والتي كانت تتهم ترامب بالكذب، وصفتهُ بالصدق في وعوده! فنيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال، اتفقت على عبارة: “ترامب رئيس يفي بوعوده الانتخابية”!!.

التاريخ يُعيدُ نفسهُ فقط عند العرب

الدول العربية ومعها معظمُ شعوبها، لم ولن يتغيّروا؛ شجبٌ وإدانة ووعيد… وسوف نرمي إسرائيل في البحر، وشوباش يا أهل العريس… ويتم النسيان. فمنذ 6 حزيران 1967، والقدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، والمتطرفون يعيثون فساداً بها، والحكومة الإسرائيلية تُغيّرُ معالمها وتركيبتها الديموغرافية، فماذا فعل العربُ منذ 50 عاماً ومن ورائهم المسلمون، لفلسطين والقدس؟ الصياح والنحيب والدعاء في الصلوات وحرق الأعلام… وهو المطلوب.

بتاريخ 21 آب 1969، قام متطرفون يهود بحرق المسجد الأقصى، بعدها استنفر الجيش الإسرائيلي، وقالت غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة: (لم أنم ليلتها وأنا أتخيّلُ العبر سيدخلون من كل صوب، لكنني مع الصباح أدركتُ أنه لم يحدث شيء، وأدركتُ أيضاً أنه باستطاعتنا فعل ما نشاء، فهذه أمة نائمة). طبعاً تمت تهدئة الشعوب “المتحمسة” بإدانة “تافهة” من مجلس الأمن لإسرائيل بالقرار 271، لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة. لا تنسوا أنّ القرار عبر عن “حزن” المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال الإسرائيلي.

لم تكتفِ الأمة بالنوم، بل باتت تتصفُ بالجبن والغباء أيضاً، فالمتطرفون يقتحمون باحة الأقصى بشكل دوري،  ومنها اقتحام آرئيل شارون مع أعوانه في 28 أيلول 2000، والذي شكل الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي حملت اسم “انتفاضة المسجد الأقصى”، والتي كانت ستؤتي نتائجها، لولا تدخل الدول العربية، وتسليم القيادة للمنظمات الإسلامية، وهنا قمة الغباء، كيف؟

لماذا خسرنا فلسطين؟

هم يُخططون والعُربان يُنفذون، بعيداً عما جرى عام 1948 و 1967، وحروب الجيوش العربية الخاسرة دوماً، نتحدث عن حركات التحرير الفلسطينية، وما جرى من حولها… هنا نجدُ أنّ نظرية المؤامرة صحيحة بحذافيرها:

  • حركات المقاومة القومية لتحرير فلسطين كانت الأخطر على الكيان الصهيوني، قامت إسرائيل بتحجيمها والقضاء على نشاطاتها العسكرية، وبمساعدة العرب والمسلمين أنفسهم، لصالح الحركات الإسلامية، فصعدت حماس والجهاد الإسلامي على حساب الشعبية والديموقراطية، وحتى فتح نفسها التي راحت تنهج نهجاً إسلامياً كي تبقى.

  • بينما كانت معظم عمليات المنظمات القومية الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي وأتباعه، جاءت الحركات الإسلامية بعمليات معظمها ضد المدنيين الإسرائيليين، وهو ما تسعى له إسرائيل لتصور المقاومة الفلسطينية بأنها إرهابية… ونجحت. السؤال: ماذا قدّمت حركة حماس وغيرها لفلسطين؟ هل حررت شبراً واحداً؟ هل أوقفت الاستيطان؟

  • الدين أهم من الوطن، هذا هو الشعار الذي تمّ زرعهُ في صناديق الرؤوس… فقد قاتل الجيش السوري ومنذ عام 2011 وحسب إحصائية مركز فيريل لتموز 2017: 18500 فلسطيني من المخيمات أو جاؤوا من الأردن ولبنان وحتى من الضفة وغزة وغيرها، فهل كانت تل أبيب أبعدُ من دمشق؟

  • أخطر ما قام به العرب والمسلمون في فلسطين هو إعطاءها الصبغة الإسلامية، وهذا مطلبٌ إسرائيلي بحت… ابتدأت العصابات الصهيونية عملها منذ عام 1948 بمسح قرى مسيحية بكاملها، فكنائس اللد وبيسان وطبرية وصفد مُحيت عن وجه الأرض، وجاء بعدها احتلال 1967 لتصادر إسرائيل ممتلكات الكنائس وتُهجّر المسيحيين… تلتها الحركات الإسلامية لتتابعَ عمل تلك العصابات…

اختصِرت فلسطين بالقدس، واختصِرت القدس بالمسجد الأقصى، فأصبح الأقصى أهم من فلسطين، والسبب ديني بحت، وهو ما سعت إليه إسرائيل… ونجحت.

التقينا بمركز فيريل بعدد من مسيحيي فلسطين الذين هاجروا إلى أصقاع الأرض، ما فعلتهُ حماس ضدهم، يفوق ما فعلتهُ إسرائيل… أي: (هناك عملية تهجير لمسيحيي فلسطين تتشاركُ فيها إسرائيل والحركات والمنظمات الإسلامية الفلسطينية والعربية).

  • حسب معلومات مركز فيريل، عدد المسيحيين في إسرائيل هو 172 ألفاً، وفي الضفة الغربية 56 ألفاً فقط يعيشون في المثلث المسيحي: بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. أما في غزة فلا يتجاوزون 3500 مسيحي، بعد أن كانوا 11 ألفاً عام 2005.

ماذا لو بقيت القدس مسيحية الطابع؟

ما لم يستوعبهُ العامة الجهلة أنّ وجود مئات الآلاف من المسيحيّين أخطر على إسرائيل من مليار مسلم، لهذا كان هدفها الأول تهجيرهم بكافة الوسائل الممكنة دون لفت الانتباه، فالدول الأوروبية الداعمة، مسيحية لو شكلياً ولن تسمح لإسرائيل بارتكاب المجازر بحقهم، لهذا جاءت حملات التهجير بالترغيب والترهيب.

عام 1922 كان 55% من سكان القدس مسيحيين!! اليوم 2% فقط. تهجير المسيحيين جاء وسط صمت أوروبي وإسلامي، فهل كانت ستتمكن إسرائيل ومن ورائها ترامب من إعلان القدس عاصمة يهودية والمسيحيون فيها 55%؟

هذا ما حدث في العراق ويحدث في سوريا، والحكومات الإسلامية فيهما تُساعدان إسرائيل. إعطاء الصبغة الإسلامية لهذه الدول، يُعطي الشرعية لقيام دولة يهودية، والمنظمات الإرهابية الإسلامية التي تضربُ الكنائس، تحقق أهداف إسرائيل بكل بلاهة، بينما رجال الدين الإسلامي يهللون للتخلص من المسيحيين.

النتائج القادمة لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل

  • ستبدأُ موجة الشجب والاستنكار والمظاهرات والاضرابات ورمي الحجارة، ومعها تصريحات نارية لرجال الدين والسياسة والمنظمات الإسلامية الفلسطينية بأنّ: “إسرائيل فتحت على نفسها باب جهنم”! وكلام ببغاوات يكررونه منذ 70 عاماً.

  • سيتم حرق العلم الأميركي والإسرائيلي، والأهم “وضعه تحت الأقدام” وهو دليل انتصار جبار!!، مع قذف سفاراتهما بالمولوتوف والبندورة.

  • سيقوم الملايين بكل “دروشة” بتغيير صور البروفايلات في الفيس بوك وتويتر وغيرها إلى: “كلنا القدس”… “القدس لنا”… القدس عاصمة فلسطين… ستعود القدس مهما طال الزمن… القدس عربية إسلامية!!

  • اجتماع لأشاوس الجامعة العربية والمنظمات الإسلامية مع رفض للقرار الأميركي، وتأكيد “التضامن” العربي مع القدس، والأهم، رفع رسالتي احتجاج متطابقتين للأمم المتحدة ومجلس الأمن.

  • تحوّل الخطاب الديني الإسلامي إلى أنّ القدس كانت عاصمة إسرائيل وكلّه موثق دينياً!! واليهود أخوتنا ولهم الحق في فلسطين، وكلهُ برعاية الحكام المسلمين “الشاجبين” لخطوة ترامب.

  • كل ما ورد لا يُقدّم بل يؤخر وهو سلوك سُذج ومحبطين. وصياح الشعوب العربية والإسلامية لا يهزّ شعرة في مفرق ترامب… انتفاضة فلسطينية دون استخدام الأسلحة مع الاحتجاجات الدولية هي التي ستحكم على التالي فقط، فإن تطورت تلك الانتفاضة مع الاحتجاجات العالمية، وكي تتخلص واشنطن من الانتقادات الدولية، وتحرفَ الانتباه عن قرارها لابد من:

  1. عملية توصفُ بـ “الإرهابية” في حافلة إسرائيلية أو قصف مستوطنة ما، وربما محاولة “مدروسة” لاغتيال شخصية إسرائيلية أو أميركية، أو تفجير سفارة أو مركز ما في العالم، ليتم استغلالها ضد حزب الله أو إيران وربما سوريا.

  2. قد تقوم إسرائيل أو الولايات المتحدة بشن هجوم كبير كي تحرف الأنظار، حسب درجة الاحتجاجات العالمية، ضد إحدى الدول، الدول المرشحة: سوريا، لبنان، إيران، كوريا الشمالية.

ختاماً

قرار الإعلان بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل تمّ بمعرفة معظم زعماء الدول العربية والإسلامية، ويؤكد مركز فيريل أنه جرى إخبار هؤلاء الزعماء في الرياض أثناء زيارة ترامب للسعودية في أيار الفائت 2017. نقول هنا إخبار الزعماء وليس أخذ مشورتهم…

هذا الشبل الفلسطيني أشجع من ملايين من حارقي العلم الإسرائيلي والبكاؤون بعد الدعاء والصلاة ومعهم جيوش العربان

إسرائيل لا تخشى الغوغاء أو المتطرفين الإسلاميين أو أصحاب الصياح والتهديد، لأنها تقودهم حتى في هلوسات حرق أعلامها وشتمها والوعيد برميها في البحر… إسرائيل لا تخشى حماس أو الجهاد الإسلامي أو داعش أو النصرة، لأنها منظمات إما تعمل تحت أمرتها، أو يمكنها استغلال إرهابها لصالحها أمام العالم… إسرائيل لا تخشى الخارجين من الصلاة الذين يهتفون بالموت لها ولأميركا، حتى تُبحَ حناجرهم ويعودون إلى منازلهم منهكين من الصراخ…

إسرائيل تخشى الصامتين العاملين بوعي ودراية وعِلم… تخشى المنظمات والدول التي لا تتاجر بالدّين، التي تضم تحت لوائها أبناء الوطن دون تمييز… تخشى الخارجين من الجامعات ومراكز الأبحاث ودور الثقافة وحتى الفن…

عندما يُصبحُ عدد المتعلمين المثقفين أعلى من عدد الصارخين الباكين المتوعدين، عندها سنتحدثُ عن تحرير فلسطين… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 07.12.2017