من جامع ميونيخ إلى جامع طرطوس د. جميل م. شاهين

تاريخ النشر 10 حزيران 2015. عدد القراءات 307281. وأنا أتصفحُ كتاب “جامع في ميونيخ” للكاتب الأميركي Ian Johnson الذي يعيش في برلين، الصادر عام 2011 في نيويورك، لم أسـتطع إلا أن أتذكر جامع طرطوس، وقبله آلاف الجوامـع التي بُنيتْ لممارسـة كـافة النشاطات المسموحة وغير المسموحة، باسـتثناء عبـادة الله.
مررتُ بأبي عامر الفاسـق، الذي تحالف مع هرقل ملك الروم، ثم تبرعَ من مالهِ الخاصّ وبنـى مسـجداً “للمؤمنين” في المدينة، جعلهُ مقر قيادة لحربـه ضد الرسول. فكم “أبو عامر الفاسِـق يقبعُ في حاويتك يا وطني؟“.

النازيّون والإسلام

استخدم النازيون الإسلام في القوقاز وتركيا، خلال الحرب العالمية الثانية، لضرب الروس، عن طريق الوزير غيرهارد فون مينده، وهو وزير الأراضي المحتلة، أي آسيا الوسطى والقوقاز، وكانت مهمتهُ استغلال المسلمين في حربه ضد السوفييت، أول شيء فعلهُ مينده هو تعلّم اللغة العربية والاتصال بالمخابرات الأمريكية، ثم زاد من اتصالاته باسـتنبول ونسّـق عمله مع الأتراك. أفضل البدايات هي جمع قادة المسلمين في ألمانيا، كان اقتراحهُ ببناء جامـع ميونيخ، فلم يكن له ذلك بسبب معارضة شديدة من الأحزاب المسيحية بولاية بايرن، تأخر وضع حجر الأساس حتى تشرين الأول 1967، وسُميّ “جامع الرجل الحرّ“.

جامع ميونيخ

من جامع ميونيخ انطلقت شـرارة توظيف الدّين الإسـلامي لغايات سياسية، وبالتنسيق بين المخابرات الأمريكية والألمانية والتركية، فكان مقراً ومنطلقاً لغسل الأدمغة إن وُجدتْ، وتهييج قلوب الحمقى وما أكثرهم، الظاهر دعوات روحية وأبحاث أتقياء، ضمن عمل منظم من أجل الوصول للسلطة السياسية عبر بناء دولة الخلافة الإسـلامية.
جاءت المخابرات النازية عوضاً عن هرقل، ثم ورثتها المخابرات الأميركية.




من جامع ميونيخ بدأ الإخوان المسلمون انطلاقتهم برعاية نازيـة ثم أمريكية قاصدين أوروبا، فشكلوا التنظيم الدولي للإخوان، لهذا نرى أنّ ألمانيا هي المكان المفضّل لمنفى هؤلاء عندما يُطردون من بلادهم.
ثم دخلت السعودية على الخـط مادياً، قبلَ أن تغضبَ على الإخوان الذين انقلبوا عليها، فأعادت إحياء تنظيم الإخوان اعتباراً من الرجال الذين يجتمعون في جامع ميونيخ، وهم غالب همت، يوسف ندا، إضافة إلى مهدي عاكف مرشد الإخوان، والزعيم الروحي للإخوان يوسف القرضاوي، الذي قاد العملية كلها وتابعها بكل تفاصيلها. اتبعت السعودية وتركيا سياسة أكثر مرونة ودهاء وهي سياسة التمكين والبراغماتية والسرية، أي تحقيق الأهداف بالتدريج وإظهار الانفتاح على الحضارات والأديان الأخرى، وإظهار المسلمين بلباس أوروبي وفكر متحرر، وهي سياسة اعتمدتها المخابرات الألمانية النازية.
لاحقاً تمّ تأسيس الفيدرالية الإسلامية، فضمت تحت لوائها منظمات الإخوان المسلمين في بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اسبانيا، يوغسلافيا، النمسا، اليونان، هولندا، رومانيا، سويسرا. وأصبحت هذه الفيدرالية القاسم المشترك لعشرين منظمة ذات روابط ثقافية وتنظيمية بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، أي هي الفرع الأوربي لقيادة التنظيم الدولي للإخوان.
إلى الجانب الثقافي والاقتصادي، تمّ تأسيس “معهد دراسات العلوم الإنسانية” وهو عبارة عن مركز لتدريب النخب الإسلامية على كيفية استقطاب الأوروبيين للدين الإسلامي، وجاء إنشاء “الصندوق الإسلامي الأوروبي” لتأمين الأموال اللازمة لتغطية نشاطات الجماعة، وشركة الفيدرالية القابضة لإدارة مشاريع الجماعة وممولها الرئيسي هو “مؤسسة مكتوم الخيرية”، مقرها الدوحـة، أي دخلت هنا قطر أيضاً.
وبدأنا نسمع عن حوار الأديـان والتقارب بين الحضارات، وزيارات للفاتيكــان والاتحاد الأوروبي، والأخوّة والتآخي والعيش المشترك…

جامــع ميونيخ هـو المجلس الذي تُصنـعُ فيـه سياسات العالم الإسـلامي كلّه، وصلاته بالإرهـاب لا تقبل الشكّ فمنهُ خرج حمود أبو حليمة الذي ساعد في تفجير مركز التجارة العالمي 1993. من رواد هذا الجامع ممدوح محمود سالم وهو المسؤول المالي لتنظيم القاعدة والمعلم الشخصي لأسامة بن لادن.
المخابرات الألمانية ليست نائمة، وكافـة جوامع ألمانيا تحت المراقبـة، لكنهم لسبب ما يتركـون الحبـال طويلة لأصحاب الذقون، وفي اللحظة الحاسـمة يحلقون هذه الذقون وما تحتها، أو هكذا يظنّون. يُصـدّرون لبلادنـا زعمـاء المسـاجد بعد إدخالهـم في دورات خاصّة، أمّـا وقد باتت بلادنـا هي المُصـدرة لهكـذا زعامـات، فقد يتـم إغلاق جامـع ميونيخ للأبـد.

إذا كانت ألمانيا قد أنشـأتْ جامعَ ميونيخ، فكـم لدينا مثلهُ؟ الفارق أن جوامع بلادنـا تقوم بتنفيذ أوامر ميونيخ، ومنها خرجتْ فصول السنة العربية لتحرق ربيع بلادنا، منها خرجت طائفية بيروت والتابوت.
التيار الوسطي غير مسـموح لهُ بالظهور والبقاء، ومصير عُلمائهِ تفجير انتحاري أو اغتيال فردي، وعلمـاء الشـام الأتقيـاء باتـوا في تصنيفهـم مرتدين، علماء الشام منارة العالم الإسلامي، تـمّ استبدالهم بتجار الدّين وشيوخ البلاط.

الذي أنتجتـهُ تركيا والسعودية ومن ورائهما المخابرات الأمريكية في منطقتنا، وقد نجحوا، هو تيار سَلفي ضمناً منفتـح ظاهرياً، نساؤهُ نسخة  تايوانية عن نساء استنبول حتى باللباس، وأول علائم اللباس هو الحجاب “الشرشف” الاستنبولي ذو المؤخرة اليقطينية، ورجاله يرتدون الكرافات ويتظاهرون بالتحضر وقبول الآخر، وهـم في واقع الحال آكلوا أكباد بثياب الحمـل، فصارت بلادنا نسخة عن رجب وزوجتـه أمينة.
وابتـدأ مسلسل باب الحارة وما أكثر مشاهديه، ومعهُ مسلسل الحب المسموح ووادي الكلاب. زرعوا فينا صورةً مقلوبــة عن نساء سوريا. كثرت شركات “الدبلجة” وأنصاف الكومبارس من الفنانين العاطلين عن العمل.
فتحـوا باب السياحة إلى سناجق العثمانيين، فأصيب الناس بإسهال تركي، الجميع يتباهى أنه زار تركيا وعاد بثياب مهند ونـور، وكأنّ تركيا ليست مكبّ قمامة أوروبا. واسـتمر الإسهال…
عملوا على بنـاء المساجد في كل قرية وحارة وزاوية، مساجد عثمانية الهوى ممزوجة التوجه بين إخوانية ووهابية الدّين، وبتمويل سـعودي سخي، وكلّها بيوت الله!!. المسافر من دمشق إلى حمص مثلاً، يحتار هل يُصلّي نصف ركعةٍ في كل استراحة في الطريق، عسى أن يزور كل المساجد؟
أنشأوا مئات الجمعيـات الخيريـة /ظاهرياً/، والبنوك الإسـلامية ودور نشـر الدعـوة ومعاهد تحفيظ القرآن. وبدأت العمالة السورية تغزو السعودية وتوابعها، تتعلّمُ التخلّف والوهابية وتعود لتنشرها في ربوعنا.
فتح البسـطاء لهـم بيوتهـم، زوجوهـم قاصراتٍ في الرابعة عشرة لعجائز في الثمانيات، المهم المهـر. كل هذا جرى بمباركة من تيار خامس من المسؤولين الداعمين والبالعين لريالاتهم، أما إن حذّرتَ بالعـاً من المسـؤولين فلديه التبريـر: “مسلمون… ويدفعون…”. التيار الخامس ينخر جسـد الدولة، وهـو الأخطر من الدواعـش لأنه مستتر، والذين نراهـم يتحدثون عن التآخي أمام المساجد، لن نراهـم يتفقدون جرحى الجيش أو عائلات الشـهداء إلا إذا سـبقتهم الكاميـرا ومعهـا مُذيعـة “طرية”. بينما تكثر فيديوهـات الركوع والتظاهـر بالتقوى في المناسـبات الدينية، وهذا رمضان قادم وسـترون ارتفـاع منسوب التقوى الفجائية.




المعادلــة تقول: مقابل بناء كلّ جامـع يجب أن نبني مدرسة ومستوصفاً. يمكنكم حسـاب عدد المساجد في دمشق وعدد المدارس. ولمعلومات السادة المسؤولين؛ هناك مادة تُدّرس اسمها التربية الدينية تبدأ منذ الصف الأول، وهي كافية لتعليم جيلنـا المبادئ الصحيحة للدين، دون الحاجة لإمام جامع ريالته “شــاطة” على حوريات الجنة وهو يترنحُ منتشياً بالقطيع المُنساق إلى المذبح. تبرّعَ “أشقاؤنا” بكل شيء، ولم نرَ مدرسةً ابتدائية أو مشفى أو مكتبة تُبنى من ريالاتهـم. الحضارة رجسٌ من عمل الشـيطان والمطلـوب: “شعبٌ يركع فقط“… ونجحوا.
أعداؤنا مسـتمرون ومسؤولينا يصفقون وجيوبهم يملؤون وعن الشرف يتحدثون والشريط الحريري يقصـون ومقابل الكاميرا كالعروس ينصمدون. وهـذه هي النتائج.
المسلم الحقيقي ليس بالمظاهـر، يُصلي ويصوم دون تطبيلٍ وتزمير، يحتاج لمدرسةٍ وجامعة ومشفى ومكتبة، قبل أن يحتاج لمسجدٍ.
أخيراً أكررها “احذروا من المتأسلمين بلبوسٍ متحضّر، احذروا من التيار الخامس”، وأختمهـا لكم بكلام الفصل لعلكم تعقلون:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) التوبة (107).  الكاتب: د. جميل م. شاهين ـ برلين 10.06.2015