الفساد في العالم وسوريا Corruption in the world and Syria

الفساد في العالم وسوريا. Corruption in the world and Syria. 12.02.2021

الفساد في سوريا والعالم

الفساد؛ مُصطلحٌ واسعٌ يعني انعدام النزاهة في التعامل بكافة مستوياته وأشكاله وأنواعه.

لغوياً؛ فَسُد الشيء أي تلفَ أو انحرفَ أو عطبَ أو أصابهُ الخلل. بالإنكليزيةCorruption  والمصدر لاتينيCorruptus وكان يرمز إلى (فسُد فرشى فدمّر) وقد استخدم في اليونان القديمة قبل الميلاد. يشملُ الفساد في دولةٍ ما أحد الجوانب السياسية أو الإدارية أو المالية أو الأخلاقية أو الدينية، أمّا عندما يشملُ الجوانب السابقة كافةً فالنهاية الحتمية هي انهيار الدولة.

عندما يُصيبُ الفسادُ الجوانب السياسية والإدارية والمالية والأخلاقية كافةً، يؤدي لانهيار الدولة

الفساد حول العالم

الفساد موجود في كافة الدول دون استثناء لكن الفارق هو النسبة والإنتشار. مذ وُجدَ الإنسان أوجده؛ فالسلطة القضائية لدى الفراعنة منذ عام 3100 قبل الميلاد، عيّنت مراقبين لمكافحته بعد كثرة السرقات في بلاط الملوك. المؤرخ الإغريقي Herodotus ذكرَ  عن قيام عائلاتٍ يونانية برشوة كهنة معبد Oracle لخداع العامة، وقامت بإعادة بناء معبد Apollo ابن الإله زيوس بالرخام الثمين والمقابل أن يتمّ القضاء على حكم أثينا، فبدأوا بنشر معلومات كاذبة ورفع شعار “حرّروا أثينا”، فلبت جيوش أسبرطة نداء الكهنة وهاجموا أثينا 510 قبل الميلاد… أرسطو قال: (حتى الآلهة يمكن رشوتها)!.

مع تطور الحضارات ازداد الفساد تنوعاً وانتشاراً ليصل اليوم إلى واقع أنّ 3 ترليون دولار  سنوياً تذهبُ للرشاوى، وهو ما يُمثلُ 5% من إجمالي الناتج العالمي. هذا المبلغ يكفي للقضاء على الفقر والجوع إن أرادوا…

فضيحة أوراق بنما

هي أكبرُ فضيحة فساد عالمية كُشفت في 3 نيسان 2016، تضمنتْ أساليب غير شرعية لأثرياء ورجال أعمال ومئات من السياسيين وزعماء الدول، قاموا بإخفاء حجم ثرواتهم والتهرب من دفع الضرائب باستخدام شبكات سرية. 11,5 مليون وثيقة تضمنت تلك العمليات مع إثباتات بأسماء هؤلاء ومعها التحويلات البنكية وحجم الأرصدة.

مكتب Mossack Fonseca & Co وهو مكتب محاماة في بنما تأسس عام 1977 على يد المحامي الألماني  Jürgen Mossack. انضم إليه عام 1986 المحامي البنمي Ramón Fonseca، قدّم خدمات مالية لشركات عالمية في 42 دولة حول العالم وصلَ عددها إلى 300 ألف شركة، يعملُ به 600 موظف وينشطُ في سويسرا وقبرص وجزر فيرجن البريطانية ذات الضرائب المنخفضة. بتاريخ 03 نيسان 2016 نشرت صحيفة Süddeutsche Zeitung الألمانية أن لديها 2,6 تيرابايت من الوثائق السرية منذ نهاية السبعينات عن فساد مالي كبير في مكتب شركة خدمات في بنما بعد اختراق حاسوبه، حصلت عليها من مصدر مجهول عام 2015.

 14 آذار 2018 أغلق مكتب المحاماة مكاتبه ويبدو أن صفحة الفضائح طويت بالاتفاق بين “اللصوص” العالميين… لائحة الأسماء تضمنت مئات الشخصيات العالمية من ملوك وأمراء ورؤوساء وسياسيين وفنانين ورجال أعمال ورياضيين. بالنسبة لسوريا؛ ورد اسم رامي مخلوف وأحمد سليمان محافظ إدلب السابق فقط، بينما أضاف البعض أسماء أخرى غير موجودة في النسخة الرئيسية.  

الفضيحة دفعت بعض الدول لإعلان حربها على الفساد، فاستضافت لندن في أيار 2016 قمة مكافحة الفساد برعاية ديفيد كاميرون. بنفس الوقت؛ أصدر صندوق النقد الدولي تحذيراً من مخاطر الفساد ومدى تأثيره السيء على الإقتصاد والمجتمع.

كيف يؤدي الفساد لانهيار الدولة؟

يؤدي انتشار الفساد إلى تخلخل الدولة وعدم قدرتها على أداء مهماتها الأساسية في تأمين حياة كريمة لمواطنيها واستقلالية قراراتها السياسية وقدرتها في الدفاع عن أرضها. فينخفضُ نصيب الفرد من الناتج القومي، مع تراجع وأحياناً توقف النمو الإقتصادي. تضعفُ ثقة المواطن بدولته إلى أن تصل إلى انعدامها نهائياً. عندما تعجز الدولة عن تنشيط الوضع الاقتصادي تتراجعُ إيراداتها مع استمرار الانفاق العام، ليبدأ العجزُ المالي ومعه التضخم وتراكم الديون، هنا تنخفض قيمة العملة الوطنية لتزيد السياسات النقدية الفاشلة الأمر سوءاً.


مع انتشار الفساد في دولة ما، تنتشر ثقافة التهرب الضريبي لتصبحَ عدوى بين الأثرياء مما يؤدي إلى تراجع تحصيل الضرائب، وبالتالي انخفاض الإيرادات، فنرى التفاخر بين التجار بطريقة تهربهم الضريبي واختلاق الأعذار والتظلم، بينما يدفع هؤلاء التجار أنفسهم الضرائب عندما يعملون في دولة أقل فساداً، وقد ذكرنا ذلك في مركز فيريل للدراسات عن عدد من التجار السوريين الذين نقلوا ممتلكاتهم وأموالهم إلى تركيا وألمانيا، وباتوا يدفعون للدولة أضعاف ما كانوا يدفعونه للدولة السورية.

استمرار الفساد، يجعلُ الأجيال تنشأُ على حبّ مخالفة القوانين واعتبار ذلكَ بطولةً، بينما يُنظر لمَنْ يمتثل لتلك القوانين على أنه إنسان ضعيف، وهذا أحد أسوأ أنواع الفساد الأخلاقي. الأجيال هذه تتربى أيضاً على الرشوى سواء بتلقيها أو بدفعها، إلى أن يصلَ المجتمع لحالة من التردي الأخلاقي باستخدام تعابير (كل شي بينحل بالمصاري) فلا يهتم الناس لمصدر ثروة شخص ما بقدر اهتمامهم به شخصياً، فيُطلقون عليه “شاطر” وعملية السرقة والنصب؛ “شطارة”، ليُصبحُ المال هو المُبتغى إلى أن يصل ليكون إلهاً يُعبد.

عندما تعجزُ الدولة بسبب الفساد عن تأمين حاجيات المواطن الأساسية من مأكل ومسكن وطبابة، ويقلُّ الانفاق على التعليم والصحة والمرافق العامة، يتراجعُ المستوى التعليمي ويسود الجهل والمرض ومعهما الجريمة والمخدرات والدعارة، ويتنشر السلاح لتظهر شبكات إجرامية يعجز الأمن عن السيطرة عليها، إما لضعف الجهاز الأمني أو لأنّ بعضاً من القادة الأمنيين هم شركاء في الشبكات تلك.

كيف يمكن أن نطلبَ من المواطن الفقير الجائع الالتزام بالقوانين، وهو يرى الأثرياء يبذرون أموالهم في صالات القمار مثلاً، بينما لا يستطيعُ شراء حذاء لابنه؟


الرشوة أحد أوجه الفساد فقط، وتأتي كطريقة لتحقيق مكسب غير قانوني. الأسوأ؛ أن تصلَ الرشوة لدرجة تُصبحُ فيه رسماً غير قانوني يُحقّقُ القانون! فالموظف مثلاً؛ لا يقوم بعمله إلا إذا تلقى مبلغاً من المال رغم كون أوراق المُراجع قانونية تماماً.

مع الفساد تهربُ الاستثمارات الأجنبية ولبنان مثال على ذلك، بينما تزداد استثمارات الشركات الفاسدة والتي تكونُ محليةً أو أجنبية تتشارك معها.

 مع الفساد يزداد التدخل السياسي واستغلال المناصب وعرقلة القوانين العامة لتمرير تعاملات شخصية، وهنا نصلُ لمرحلة الاستيلاء على الدولة من قِبَل مجموعة متكاملة من أصحاب النفوذ والأثرياء ورجال الأعمال شركاء المسؤولين في الصفقات المشبوهة. فيتم مثلاً؛ عرقلة استيراد أو تصنيع أو إنشاء مصنع أو مؤسسة أو بضاعة لصالح ثري. تُقطعُ الكهرباء لأن رجل أعمال استورد مولدات كهربائية. تُفرضُ ضرائب كبيرة على الألبسة المصنعة داخلياً، لأنّ تاجراً يستورد ألبسةً أجنبية تُباعُ بسعر أرخص، تتضاعفُ أسعار الزيوت لأن الوزير شريكٌ لتاجر الزيوت… وهكذا.  

الفساد الديني والأخلاقي

يتم دائماً ربط الدين بالأخلاق ومعها الفساد، والواقع يقول؛ أكثر الدول فساداً هي الدول المتدينة، والدلائل واضحة قديماً وحديثاً.

عندما يتغلغلُ الفساد في دولة يحدثُ “الاتحاد” بين الفاسدين السياسيين ورجال الدين، ويتم استغلال الدين لإشغال الناس عمّا يجري، فنرى التبذير في بناء دور العبادة في الدول الفقيرة والدعوات لزيادة التعبد، ويُنسبُ ما يحدث من مصاعب وأزمات وحروب ومآس إلى ابتعاد الناس عن الإله أو الآلهة.

هذا الاتحاد ومعه الفساد وُجِد منذ بدء تطور الأديان كما ذكرنا في بداية البحث، ومعظم الحضارات القديمة تحدثت عنه، ففي مصر اكتشفت بردية تنصّ على عملية سرقة مقبرة، بعدها ألقي القبض على السارق فشُكّلت لجنة من رجال الدين وكبار موظفي البلاط والقضاة، قام السارق برشوتها فبرأته من التهمة. في عهد الملك الفرعوني رعمسيس الثاني ورعمسيس الثالث ثم عهد سيتي الثاني، قام رئيس العمال برشوة الوزير “بارع محاب” بخمسة من الخدم لتعيينه بهذا المنصب، ليقوم ابن رئيس العمال بسرقة المقابر واغتصاب النساء دون محاسبة.

عندما نرى دار عبادة صُرفت عليها أموال طائلة بينما يعيشُ مواطنوها بحالة جيدة، يبدو الأمر مقبولاً… أمّا عندما تُكلّفُ دارُ عبادة الدولةَ مليارات وبجانبها حيّ يقطنهُ فقراء لا يحصلون سوى على وجبة طعام واحدة يومياً! هنا علينا التساؤل لماذا؟ هل هذا أمرٌ أخلاقي؟ هؤلاء الفاسدون لا يصمتون بل ينعتون الدول الأخرى الأقل فساداً بالكافرة أو المنحلّة أخلاقياً.

الرشاوى واستغلال المناصب والطائفية والفقر ينتشر أكثر في الدول المتدينة. الأمية. جرائم الاغتصاب والقتل والتحرش بالأطفال. استهلاك الكحول وتعاطي المخدرات وانخفاض مستوى التعليم وارتفاع معدل الوفيات. التهرب الضريبي والصفقات المشبوهة والديكتاتورية وإنعدام حريات التعبير والصحافة… كلّ هذا ينتشر في الدول المتدينة أضعاف الدول التي تُعتبر غير متدينة أي عَلمانية، فعن أية أخلاق يتحدث أصحاب تلك الدول؟ التدين هو أحد أساليب إشغال الشعب وهذا موضوع آخر سنبحثهُ لاحقاً.

عندما تلجأ حكومة ما إلى التديّن وبناء المزيد من دور العبادة والمدارس الدينية، فاعلم أنها تعملُ مع رجال الدّين على تغطية فسادهم  


عندما يُصبحُ الفساد أسلوب حياة

عندما يُصبحُ الفساد أسلوب حياة

عندما يُصبحُ الفساد أسلوب حياة


تنهار الدول عندما يُصبحُ الفساد أسلوب حياة، فدولٌ كثيرة ليست دولاً سوى على الخارطة، بينما في الواقع (عصابات حاكمة). الأمثلة كثيرة؛ عدة دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، أصبح الفساد فيها ثقافة عامة وأسلوب حياة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.

منظمة الشفافية الدولية؛ 70% من سكان بنغلاديش دفعوا رشاوى عام 2011، 57% من الناس حول العالم لا يؤمنون بأنّ حكوماتهم تُحاربُ الفساد. 30% من سكان العالم يعتبرون زعماءهم السياسيين والأثرياء ورجال الأمن فاسدين وشركاء في الجريمة.



ما هو الحل؟


الأمر لا يحتاج لنباهة، فالحل محاربة الفساد في مهده وليس الانتظار حتى يُصبحَ أسلوب حياة. ويكفي أن نعلم أن تقديرات صندوق النقد الدولي تقول: كل دولة تستطيع السيطرة على الفساد وتخفيضه إلى حدوده الدنيا، يزيد دخلُ الفرد فيها 400%، بينما تزيد الاستثمارات الخارجية 20%، ويرتفعُ النمو الاقتصادي 3%.

أيّ تباطؤ أو اختلاق أعذار لمواجهة الفساد تعني الاقتراب من انهيار الدولة، فالفساد سرطان يتفشى ولن تفيدُ معه العلاجات المحافظة، والعلاج الوحيد هو الاستئصال الشامل.


متى نقول عن دولة فاسدة؟


لا توجد نسبة معيّنة تصف دولة ما بأنها فاسدة وأخرى بغير ذلك، لكن توفر أكثر من مظهر من التالي يجعلنا نُطلق هذا الوصف:


أولاً: تدني مستوى الديموقراطية وضعف الشفافية والمشاركة السياسية والانتخابات الصورية

ثانياً: انتشار البيروقراطية وسوء الإدارة والقرارات الحكومية الفاشلة

ثالثاً: تفشي العرقية والطائفية والعشائرية في التعاملات والتعيينات لمختلف المناصب، ابتداءً من أصغر موظف إلى رئيس الدولة

 رابعاً: تقييد حرية التعبير والصحافة والنشر

خامساً: مكانة المرأة والطفل والتعليم في تلك الدولة

سادساً: ضعف دخل الفرد وانتشار الفقر والجريمة

الفساد في سوريا

لا يمكننا الحديث في مركز فيريل للدراسات عن الفساد في سوريا بلغة الأرقام والوقائع، وذلك لعدم تمكننا من الحصول على أية معلومات صحيحة من الحكومة، حاولنا الحصول على بيانات وتفاصيل عقود الاستثمار والصفقات الكبيرة… دون جدوى. من خلال المعلومات المتوفرة لدى مركز فيريل للدراسات؛ نسبة الفساد الإداري والمالي في الأجهزة الحكومية هي من أعلى النسب في العالم، وما يُنشرُ عن ذلك في مراكز الشفافية العالمية ليس مؤامرة ولا تجنٍّ. الفساد يضرب مفاصل الدولة من أصغر موظف إلى أكبر مسؤول… ويمكن تصنيفه إلى طبقتين عُليا ودُنيا.

التسارع الأكبر في الفساد حصل منذ عام 2005، فتراجع ترتيب سوريا من المركز 70 عالمياً عام 2005، إلى المركز 126 عام 2009، واستمر الهبوط لتبقى دولة واحدة فقط وراءها وتحتل المركز 178 عام 2020. فيريل للدراسات

الفساد في سوريا بات وحشاً يضرب كافة مرافق الحياة ومفاصلها، وكما تشاهدون في الجدول ازداد مع الحرب، ومن الطبيعي أن يتراجع بتراجعها وهذا لم يحصل، لماذا؟

الفساد في سوريا سيقضي على ما عجزت عنه الحرب خلال عشر سنوات، وبدون رتوش: (لا توجد في سوريا أية عملية محاربة للفساد). كلّ مانراهُ حتى الآن أي شباط 2021، ليس أكثر من تمثيليات فاشلة لمحاربة الفساد. كمثال عايشناهُ في مركز فيريل للدراسات بتفاصيله؛ الفساد في اتحاد نقابات العمال وبعد أن نشرنا جزءاً من الوثائق عن اختلاسات بالمليارات، ومنذ أربع سنوات، ماذا كانت النتيجة؟ تمتْ محاسبة عدة موظفين “صغار” أي اختاروا أصغر الموظفين، بينما بقي الفاسدون الكبار على كراسيهم وازدادت ثقتهم بأنهم خطوط حمراء لا يُمكن الاقتراب منها. هذه هي محاربة الفساد في سوريا…

الفساد في سوريا مماثل للكثير من الدول، وإن كان الأسوأ، لأنّهُ أصبح منظومة متكاملة تضم في صفوفها شبكات متنافسة أو متناغمة من كبار المسؤولين والأثرياء، بات من الصعب التخلّص منها إلا بطريقة الجراحة الشاملة، وهي عملية خطيرة. لهذا قلناها مراتٍ؛ قد نصل يوماً إلى ضرورة “الانقلاب الشامل”، وقد وصلنا للأسف،. التغاضي عن نمو هذه الشبكات، والتذرع بشماعات “الحقبة المصيرية” التي تمر بها البلد، شجّع وساهم إلى حد كبير فيما يحدث الآن من “تغوّل” الفساد، وقد لعبت الحرب والعقوبات وطريقة التهرّب منها دوراً مساعداً وليس رئيسياً في تضخّم هذا الفساد.

عندما تبدأ الشفافية الضريبية والمالية والسياسية والاقتصادية، ويُصبحُ القانون فوق رؤوس الجميع، وتبدأ محاسبة كبار المسؤولين وأثرياء الحرب، وتنظيف الدرج من الأعلى وليس من الأسفل، سنقول بدأت محاربة الفساد… حتى ذلك الحين، نتمنى الخير لسوريا وشعبها الذي عانى ومازال… مركز فيريل للدراسات. 12.02.2021 Firil Center For Studies FCFS Berlin