الحروب الأهلية “الاقتصادية”. الدكتور جميل م. شاهين. بحث الحرب والاقتصاد، الجزء الخامس.

الحروب الأهلية “الاقتصادية” هي المُسيطرة على العالم حالياً، الجزء الخامس من بحث “الحرب والاقتصاد”. راجعوا باقي الأجزاء على الموقع هنا بكتابة “الحرب والاقتصاد” على مُحرّك البحث في أعلى الصفحة. نتمنى لكم الفائدة.

تكلفةُ الحروب العسكرية مرتفعة، ويقعُ تمويلها على كاهل الخصمين أو الخصوم، لهذا لابد من طريقة أسهل وأرخص لتدمير دولة ما، ما هي؟

عندما تشنُّ دولة كبيرة حرباً ضد أخرى، عليها استنفار قواتها العسكرية واقتصادها تبعاً لحجم هذه الحرب ومدتها. كما تضعُ بعين الاعتبار خسارة جنودها أو عتادها ومدى انعكاس ذلك على الرأي العام الداخلي. وقد تضطرُ لفرض حصار جوي وبحري على الدولة الأخرى… كلّ ما ورد مُكلفٌ مادياً ونتائجهُ ليست مضمونة دائماً. الحل؟… إشعالُ الحروب الداخلية في تلكَ الدولة… 

 الحروب الداخلية “الأهلية” تستمرُ فترة أطول وتُعطلُ كافة النشاطات الاقتصادية، وتمويلها الخارجي أسهل وأقل، وحسب مركز فيريل للدراسات؛ هذا هو الأسلوب المُتبعُ حالياً وعلى المدى المنظور والذي نراهُ بوضوح حول العالم.

في الحروب الأهلية تقوم الدول الاستعمارية بتحريض ودعم طرف ضد حكومة دولة لا تلبي أوامرها، الحكومة التي تعاني من الحرب الداخلية تلجأ للتعبئة العامة وتسخير كافة الموارد للقضاء على أعدائها الداخليين، فتدعم الجيش والأمن وترفعُ الضرائب…

مع شح المصادر تؤجل الحكومة كافة المشاريع التنموية وتلجأ لطلب المعونة من الدول الصديقة القوية… لا صداقة في السياسة، هذه الدول قد تلبي طلبها لكن بشروطها ومصالحها، فتمنحها قروضاً أو مساعدات عسكرية لقاء توسيع نفوذها وتسهيل عمل شركاتها… هنا تتخلّصُ الدولة التي تعاني من الحرب الأهلية من سيطرة الدولة الاستعمارية إلى سيطرة “الدولة الصديقة”!!

متوسط عمر الحروب الأهلية كما نراهُ في مركز فيريل للدراسات، وبمقارنة عشرات الحروب الأهلية قديماً وحديثاً، هو 12 عاماً، خلال هذه الفترة الطويلة تُستهلَك مقدراتُ الدولة، ويكون تمويل الحرب تصاعدياً إلى أن تفرغ الخزينة، فتضطرُ الحكومات لبيع مخزوناتها من المعادن الثمينة، ثم لبيع ثرواتها الباطنية بأسعار أقل من السوق العالمية لتأمين دخل يغطي تكاليف الحرب. فتنشط حركة السوق السوداء بسبب الحصار المفروض عليها ومنعها من التصدير، ليصبحَ المشترون هم الذين يتحكمون بالسوق ويفرضون شروطهم…

المشترون والوسطاء هم حكومات أخرى أو رجال أعمال سابقون وأثرياء “فجائيّون”، فيتسلطون على الحكم إن كانوا في الداخل، أو على المفاوضات وشروط إنهاء الحرب الأهلية إن كانوا في الخارج.

في الحروب الأهلية يتضاعفُ الفساد ونهب مقدرات الدولة وثرواتها، وتزداد الجرائم وعمليات الابتزاز… ومعها تنشرُ تجارة السلاح والبشر والمخدرات سواء بالتعاطي أو بالزراعة والتجارة، وهذا نشاهدهُ في أفغانستان وشاهدناهُ في لبنان ودول إفريقية وأميركا اللاتينية… كل ما ورد ينعكس سلباً على الاقتصاد الذي يصابُ بمقتل قد لا يشفى منه لعقود…
الأمثلة أيضاً كثيرة على الحروب الاقتصادية التي قد نسميها تجاوزاً “الأهلية”، جرت وتجري حالياً: في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية… كولومبيا، الدومينكان، غواتيمالا، نيجيريا، أنغولا، سيريلانكا، مالي، أفغانستان، ليبيا، اليمن، روندا، بورندي، العراق وسوريا.

تجتاز القليل من الدول فترة الحرب الأهلية، فيتحسن اقتصادها بسرعة ومعه الأمن والحياة الاجتماعية، وهو ما حدث بعد الحرب الأهلية الدامية في روندا والتي ذهب ضحيتها 800 ألف إنسان عام 1994. روندا حققت خلال سنواتٍ قليلة استقراراً ونمواً اقتصادياً هو الأفضل في إفريقيا، وزاد دخل المواطن 4 أضعاف وحجم الناتج القومي 10 أضعاف، بينما اعتبرت العاصمة Kigali أجمل وأنظف عاصمة إفريقية، شاهدوا الصورة، والسبب الرئيسي هو “حكومة نزيهة وقوانين استثمار ميسرة الشروط”… بالمقابل؛ دول كثيرة لا تخرج من “كوابيس” الحرب الأهلية التي تبقى تُسيطر على مؤسساتها ومجتمعها. قد تتحسن الحالة الأمنية، لكنها تبقى رهينة حدث ما كي تشتعل من جديد، أما اقتصادها فيبقى يعاني سنواتٍ وأحياناً عقوداً دون أن يطرأ تحسن عليه رغم الموارد والامكانيات الكبيرة، العراق مثال على ذلك، والسبب الرئيسي هو الفساد الحكومي، مع تدخلات خارجية أو استمرار الاحتلال الأجنبي.

إنها كيجالي أنظف وأجمل مدينة إفريقية عانت من حرب أهلية دامية عام 1994، لكنّها استعادت عافيتها وأمنها واقتصادها، بفضل حكومة نزيهة ومسؤولين “شرفاء” وقوانين استثمار غير معقّدة.

ما يحدث في سوريا من حرق المحاصيل الزراعية يدخل ضمن الحرب الاقتصادية، وهو عمل مدروس وليس ناتج عن خطة للغوغاء… ضرب الاقتصاد السوري الضعيف أصلاً، وحرمانه من أهم مادة غذائية هو المطلوب، والغوغاء أداة التنفيذ ليس أكثر.

مع انتهاء الحرب الأهلية الطويلة، وجلوس الأعداء إلى طاولة المفاوضات، يفرض الطرفُ الأقوى شروطه، أي الدولة الداعمة، بينما يكون دور الدولة التي عانت من الحرب ثانوياً. وهو ما جرى في لبنان عقب الحرب الأهلية، حيث جلس المتحاربون إلى طاولة المفاوضات وكان دورهم انتظار قراراتِ الدول النافذة في الساحة اللبنانية، ووضع اتفاق الطائف 22 تشرين الأول 1989، الذي يسير جانب الحائط ومازال، بينما الاقتصاد اللبناني يعتبرُ من أسوأ اقتصاديات الدول، والفساد منتشر ولبنان عبارة عن محميات لكل حزب فيه منطقتهُ ودولته وجيشهُ وحتى اقتصادهُ، بينما يحتاجُ تشكيل حكومته لعملية قيصرية بمولود بين الحياة والموت. أي حصلنا على دولة لا تمتلكُ قراراً مستقلاً وتنتظرُ تعليماتِ وأوامر الخارج كي تقوم بتعبيد طريق!! الدكتور جميل م. شاهين. بحث الحرب والاقتصاد. مركز فيريل للدراسات. برلين. Firil Center For Studies: FCFS Berlin راجعوا باقي الأجزاء على الروابط المرافقة أو اكتبوا في مؤشر البحث: “الحرب والاقتصاد”.