العواصف الترابية تعود بقوة إلى سوريا والشرق الأوسط. الدكتور جميل م. شاهين

العواصف الترابية تعود بقوة إلى سوريا والشرق الأوسط. الدكتور جميل م. شاهين. 25.04.2022

بعد شتاء أقرب إلى الجفاف، واضطراب غير مسبوق في درجات الحرارة بين شهور الشتاء والربيع، حيث جاء كانون الثاني مناصفة، بداية أعلى من المعدل ثم دون المعدل في النصف الثاني، ليأتي شباط كاملاً فوق المعدل بـدرجتين، ثم آذار كاملاً دون المعدل وكأنه كانون الثاني، وها هو نيسان يكاد ينتهي والحرارة فوق المعدل السنوي بثلاث درجات مئوية، مع حالة عدم استقرار جوي تضرب منطقة الشرق الأوسط كاملة، مسببةً عواصف ترابية شاملة وتساقط أمطار رعدية وبَرَد في مناطق محدودة. ما الذي يجري وما هي أضرار العواصف الترابية؟ نبحث هذا الموضوع في مركز فيريل للدراسات عِلماً أنّ التطرّق له نادر رغم أهميته.  

عواصف ترابية غير مسبوقة

عام 2015 كان أحد أسوأ الأعوام بعدد العواصف الترابية ونتائجها، وقد غطينا ذلك بعدة مقالات وأبحاث، سنتحدث هنا عما يجري حالياً، خلال أسبوعين فقط، ومنذ أوائل نيسان الحالي 2022، هذه ثالث عاصفة ترابية قوية تضربُ المنطقة وقد تأثرت بها كافة الدول بدرجات متفاوتة، ففي العراق  أُسعف العشرات إلى المشافي لتلقي العلاج من مشاكل في الجهاز التنفسي، نتيجة العواصف الترابية، حيث غطت سُحبُ التراب من جنوب العراق إلى شماله. وتوقفت رحلات الطيران لانعدام الرؤية وشدة الرياح. الأمر انطبق إلى حد بعيد على دمشق وعمّان وحتى القدس. بينما لقي العشرات حتفهم في السنوات السابقة مع مئات المصابين، في طقس لا تنفع معه كمامة للوقاية مع ازدياد الشعور بالاختناق، ولا يمكن التحرك فيه حتى إلى المشفى، فإلى أين نمضي؟

أثناء كتابة هذه السطور؛ تتحرّكُ عاصفة رملية قوية بمساحة تقارب 200 ألف كم مربع، من شرقي الجزائر نحو ليبيا. العاصفة نتوقع تطورها وتوسعها مع اقترابها من غربي مصر، وبمقياس غبار 1774 ميكروغرام في المتر المكعب، وهورقم خطير على الحياة البشرية.

مستويات الغبار الضّار؟

عندما نقيسُ مستوى ثاني أكسيد الكربون CO2 في الهواء نقول أنّ المستوى دون ألف جزء بالمليون جيّد وغير ضارّ. هذا الأمر لا ينطبق على الغبار ، حسب منظمة الصحة العالمية WHO؛ لا توجد مستويات آمنة في الغبار وحتى عند تركيز 10، حدثت وفيات لدى أشخاص يُعانون من مشاكل تنفسية، وسوف نعلمكم كيف يُقاس مستوى الغبار.

في القياس وحسب الصور المرافقة، يُحسب مستوى الغبار في الهواء بأجهزة خاصّة كم ميكروغرام من الغبار موجود في المتر المُكعب، الكمية هامة لكن الأهم حجم ذرات الغبار.

إذا كانت هناك عتبة للغازات السامة في الهواء الذي يستنشقهُ الإنسان، عتبةٌ زمنية وكمّية، فهذه العتبة غير موجودة في حالة الغبار، وكما ذكرنا سُجّلت حالات وفاة عند تركيز دون المتوسط ​​السنوي البالغ 10 µg/m3. 10 ميكروغرام في المتر المكعب.

تستطيع أجهزة قياس الغبار المتوفرة حالياً قياس جزيئات PM2.5 و PM10 في الهواء بالميكروغرام في المتر المكعب، وهذه المقاسات تشمل غبار المنزل والرماد والغبار المتطاير بعد العواصف الترابية وحتى ذرات العفن، وهذه كلها يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، وكي لا تتفاجأ أيها القارئ والقارئة الكريمين؛ فالغبار الذي ترينهُ على الطاولة أو أيّ أثاث وعلى السيارة، لا يُمثّلُ مشكلة كبيرة، المشكلة الصحية الخطيرة تبدأ مع ذرات الغبار التي لا يُمكنُ رؤيتها بالعين المجرّدة.

الغُبار الخطير  صحيّاً

تبدأ الخطورة الحقيقية مع صغر حجم جزيء الغبار، هذا الحجم هو الذي يُحدّدُ أين سيستقر في الجهاز التنفسي وما بعده. الجسيمات كبيرة الحجم تلتقطها أجهزة التنفس العلوية بدءاً من الأنف حتى البلعوم وتلتصق بالشعيرات والأهداب أو بالمخاط. عندما تكون الجسيمات أصغر من 10 ميكرون، والميكرو متر يساوي 10 -6 متر، تنفذُ إلى الرئتين لتستقر في الشعب الهوائية مسببة مشاكل صحية تزداد كلما صغر حجمها حتى تصل إلى الحويصلات الهوائية. هذا جزء، أمّا عندما تكون الجسيمات بحجم دون 100 نانومتر، والنانومتر يساوي  10 من المتر، فكل ميكرون يساوي 1000 نانونمتر، هنا خطورة مُضافة، فذرات الغبار تخترق مناطق تبادل الغازات في الرئتين وتعبرها إلى الأوعية الدموية لتصل للأعضاء الحيوية الهامة في الجسم البشري.

دراساتٌ طبيّة بمعظمها “خجولة”، أكدت ارتفاع معدّل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي، وأيضاً ارتفاع معدل وفيات مرضى الأمراض التنفسية المزمنة، في الدول التي يتعرّضُ فيها الإنسان لجزيئات غبار  من القياس  PM2.5 أي لا تُرى بالعين المجردة.

أسباب الغبار. الشرق الأوسط الأسوأ عالمياً

العامل الرئيسي هو الطقس والظروف الجوية، فتغيرات الضغط الجوي تُنشط الرياح فتهب على المناطق الجافة حاملة الغبار معها. ومع التغيير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، يزداد جفاف مناطق على حساب زيادة الفيضانات في مناطق أخرى.

حسب جمعية Max-Planck-Gesellschaft للبحث العلمي، ومقرها هنا في برلين، وهي أهم دار بحث علمي في ألمانيا عمرها أكثر من 100 عام. ذكرت في بحث مناخي واسع؛  نُشِرَ في نيسان 2016، ثم بحث آخر نُشِر في 21 كانون الأول 2021، صُحّحت فيه المعلومات والأرقام لكن نحو الأسوأ للأسف. البحث يقول وبرؤوس أقلام فقط:

حتّى الجِمال لن تستطيع العيش في طقس الشرق الأوسط!

ملخص البحث: (قُبيل منتصف هذا القرن، أجزاء من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لن تعود صالحة للحياة! المرجح أن تصبح العواصف الرملية أكثر تواتراً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة لتغير المناخ. بالإضافة إلى ذلك ، يمكن أن ترتفع درجات الحرارة هناك إلى 50 درجة مئوية، و ستحدث موجات حارّة أيضاً بشكل متكرر  وتستمر لفترة أطول.

يعيش أكثر من 500 مليون شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي مناطق تضررت بالفعل بشدة من تغير المناخ. عدد الأيام شديدة الحرارة تضاعفَ منذ عام 1970.). يقول Jos Lelieveld  مدير معهد ماكس بلانك للكيمياء وأستاذ في معهد قبرص The Cyprus Institute (CyI): (يمكن أن يتغير المناخ في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط في العقود القادمة بطريقة تجعل فيه الحياة غير ممكنة).

بعد دراسة عدة أبحاث قامت بها مراكز عالمية منها المركزين السابقين وجدنا في مركز فيريل للدراسات أنّ توقعات العلماء بالمزيد من ارتفاع حرارة الأرض سيكون مضاعفاً في الشرق الأوسط، وهذه نظرة ليست سوداوية كما يراها البعض، بل واقعية والتغيرات المناخية تُثبت ذلك. حتى نهاية القرن وبنظرة تفاؤلية سترتفع حرارة الأرض درجتين على الأقل فوق المعدل السنوي العام، بينما سيكون الأمر مضاعفاً على الأقل في دول الشرق الأوسط. فدرجات الحرارة القياسية التي سُجّلت خلال السنوات الماضية لن تصمد، وسنرى هذا الصيف درجات حرارة أعلى من سابقاتها.

نشرنا عدة أبحاث في هذا المجال يمكنكم مراجعتها تحت تصنيف علوم على موقعنا، ذكرنا على سبيل المثال: (خلال ثلاثة أيام وفي أواخر حزيران 2021، كانت درجات الحرارة القياسية المُسجّلة منذ 140 عاماً تتساقط يومياً ليتم تسجيل درجات جديدة. الأحد 27 حزيران 2021 في قرية Lytton الواقعة شمال شرق مدينة فانكوفر ، كندا، وضمن جبال الروكي دائمة الثلوج، 46.6 درجة مئوية، في اليوم التالي أي الإثنين 47.9 درجة ، الثلاثاء 29 حزيران 49.5 درجة. عِلماً أنّ أعلى درجة مُسجّلة في كندا كانت 45 درجة عام 1937.).

جفاف وطقس حارّ لعدة أسابيع ثم عواصف ترابية وأحياناً رعدية وتساقط للبَرَد وانخفاض حاد في درجات الحرارة وفيضانات، ثم موجة حارّة وجفاف، وهكذا دواليك. هذا هو الطقس الذي سيصبحُ مثالياً في السنوات القادمة، بل الحالية. أليس هذا ما نعيشهُ الآن؟ أين هو العصر الجليدي الذي يتحدثون عنهُ دائماً؟!

طقسٌ عشوائي

سبقَ ووصفنا ما يحدث بالعشوائية، فالحالات الجوية لم يسبق أن عرفها أهمُّ علماء المناخ حول العالم، ولم يسمعوا بها سوى من القصص التاريخية، لهذا لا يمكن تحميل السبب للاحتباس الحراري فقط. أجراس الإنذار قُرعت منذ سنوات، لكن جشع الإنسان لا حدود لهُ، والإصرار على أنّ ما يحدث طبيعي بينما يواصل “ساسة العالم” حروبهم ونفث غاز مصانعهم في الجو، سيؤدي إلى كارثة تحصد مئات الملايين إن لم يكن أكثر.

عالم المناخ الأميركي Michael Palecki  من NOAA: (بصمات تغيّر المناخ باتت واضح).  عالم المناخ الشهير  Michael Mann

(لاحظ علماء المناخ منذ فترة طويلة أنّ الطقس بات أكثر قسوةً، فهناك حالات من الجفاف الطويل ثم الأمطار الغزيرة والعواصف الشديدة. موجات الحرارة ستزداد نتيجة للاحتباس الحراري، وهي الآن أكثر بثلاث مرات في الولايات المتحدة مما كانت عليه في الستينيات، وتؤثر على مناطق أكبر من أي وقت مضى).

نعود إلى الشرق الأوسط وسوريا

في بحث جديد عن جمعية Max-Planck-Gesellschaft للبحث العلمي، يقول البرفسور Jos Lelieveld (ستتواصل موجات الحر تصل درجة الحرارة إلى 56 درجة ولعدة أسابيع، وقد تتجاوز 60 درجة مئوية، فتصبح حياة الإنسان والحيوان والنبات مستحيلة في أجزاء من الشرق الأوسط. حتى الجِمال لن تستطيع البقاء على قيد الحياة). كما ذكرنا، تمّ تصحيح توقعات 2016 ولكن نحو الأسوأ، للأسف: (سوف ترتفعُ حرارة الصيف في الشرق الأوسط 6 درجات فوق المعدل السنوي. إن أحد أهم الأسباب هو زيادة النمو السكاني الكبير في تلك الدول.).

رقمياً، قبل منتصف القرن سيكون عدد الأيام شديدة الحرارة، 80 يوماً بينما الطبيعي 16 يوماً، وفق إحصائيات منذ 1986 حتى 2005. لاحظتم الفارق؟ أمّا مع نهاية القرن الحالي فسيكون عدد الأيام الحارّة جداً هو  118 يوماً. أمّا البرفسور وعالم المناخ Panos Hadjinicolaou الذي يُجري أبحاثه في قبرص، يقول بنظرة أسوأ مما ذكرنا: (إذا استمرت البشرية في إطلاق ثاني أكسيد الكربون كما كان من قبل، فسيتعين على الناس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المرور بـ 200 يوم حارّ جداً سنوياً). الحارّ جداً يعني فوق 50 درجة مئوية.

أخطر الدول للحياة ستصبحُ

دول الخليج وعلى رأسها الكويت. العراق. مصر. سوريا. الأردن. لبنان. فلسطين، وقبرص، وأجزاء واسعة من تركيا وإيران والسودان. الجفاف سيزداد وتتوسّع الصحراء. وقد شاهدنا هذا العام أنّ نسبة الأمطار في الجزيرة السورية ومحافظات دير الزور والرقة، لم تصل في بعض المناطق إلى 30%، أي نحن بحاجة لثلاث سنوات تكون فيها الأمطار 130% للتعويض، على فرض أنّ الاستهلاك المائي بقي ثابتاً.

هل برنامج هارب وراء العواصف الترابية؟

سبق ونشرنا بحثا واسعاً عن برنامج هارب بخمسة أجزاء أفردنا للعواصف الترابية قسطاً كافياً، لكن يجب أن تعلم أيها القارئ الكريم أنّ قدرة مشروع هارب على إحداث تغييرات في المناخ غير معروفة تماماً، لهذا نتمنى عدم الانجرار وراء عملية “تضخيم” قدرة هذا المشروع وجعل كل ما يحدث حول العالم من كوارث طبيعية، بسببه، وبنفس الوقت عدم نفي وجود هذا البرنامج. المؤكد لدينا في مركز فيريل للدراسات وما شاهدناه، أنّ مشروع السيطرة على المناخ موجود فعلاً، لكنّ قدراته مازالت تقتصرُ على منطقة جغرافية محدودة المساحة، أحد الأسباب الرئيسية هو حاجتهُ لطاقة كهربائية هائلة جداً، فمثلاً استطاعة الشحنة الواحدة المرسلة من هذا البرنامج هي 1 غيغا واط أي ما يستهلكه 4 ملايين شخص يومياً!

ما حدث في العاصفة الرملية بتاريخ 9 شباط 2015، ثم العاصفة رملية 2 آب 2015، والعاصفة الرملية أثناء تحرير حلب في آب 2016، وغيرها عدة عواصف متتالية، تجعلنا نقول: (العواصف الترابية الكبيرة والتي تشمل عدة دول، هي بفعل التغير المناخي، لكن هناك تدخل بشري لزيادة تأثيرها في مناطق معينة ولغايات عسكرية أو سياسية أو اقتصادية)، للتأكد يمكنكم مراجعة الجزء الرابع من بحث برنامج هارب، حيث أصابت عاصفة رملية ولفترة قصيرة جداً، مطار عمّان فقط! مما اضطر طائرتين أردنيتين تابعتين لشركة “طيران رويال جوردن” للهبوط في مطار بن غوريون! وكان سؤالنا يومها: هل هبطت طائرتان أم طائرة، ومَنْ كان فيهما؟ والأمر يمكن تكرارهُ في مناطق أخرى من سوريا مما يزيد الشكّ بأننا حقل تجارب مناخ كما كنّا حقل تجارب للأسلحة العسكرية… وسنبقى. خاصّ بمركز فيريل للدراسات ـ برلين Firil Center For Studies FCFS Berlin Germany . الدكتور جميل م. شاهين.

ختاماً

كان لابد من الابتعاد عن الموضوع الرئيسي لزيادة التوضيح، أعود للقول؛ الغبار ضار بالصحة خاصة عندما تكون جسيماته صغيرة جداً ويعادل ضرره ضرر الدخان على اختلاف مصادره. أسلم المناطق هي السهول الخضراء المفتوحة أو القريبة من البحر بسبب دوران الهواء وارتفاع نسبة الرطوبة. على النقيض من ذلك، المدن الواقعة في الوديان يكون مستوى الغبار فيها مرتفعاً. كحل جزئي؛ يمكن استخدام أجهزة تنقية الهواء من الغبار وقياس مستوياته، لكنها إن توفرت في سوريا ومعها ثمنها، فهل يمكن ضمان توفّر الكهرباء؟. ابقوا بخير. 25.04.2022 Firil Center For Studies FCFS Berlin Germany